حول أصل اللغة العربية وعلاقتها بالأمازيغية

كيف نشأت اللغة العربية؟ وكيف وصلت لنا في صورتها الحالية؟ وما علاقة اللغة العربية باللغة الأمازيغية؟ وهل اللغة العربية والأمازيغية شقيقتان أم لا؟ تلكم هي الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها في هذه المقالة، والتي طلبت مني كثيرًا من البحث والدقة.
تحمل اللغة العربية في طياتها أسرار التاريخ والجمال والدقة، وربما لم تبلغ لغة في سعة مفرداتها مبلغ اللغة العربية، فقد فتحت الباب للمستشرقين والدارسين، وقالت عنها المستشرقة الألمانية الشهيرة زيغريد هونكة: «كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة، ومنطقها وسحرها الفريد، فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها، سقطوا صرعى في سحر اللغة العربية».
تعدّ العربية من بين اللغات الخمس المستعملة في جمعية الأمم المتحدة، وهي اللغة السامية الوحيدة التي وصلت إلى هذه الدرجة من العالمية. كما أنها مرتّبة في المراتب الأربع الأولى مع كل من اللغة الصينية التي يتحدّث بها نحو مليار ونصف مليار، واللغة الإسبانية مع البرتغالية وهي لغة أكثر من مليار، بالإضافة إلى اللغة الانجليزية التي أصبحت اليوم لغة العلوم والتكنولوجيا، والعربية التي مازالت لغة صلاة لكل المسلمين في العالم، فأينما وُجد المسلم، تجد اللغة العربية.
نشأت اللغة العربية في شبه جزيرة العرب، والتي تتكون اليوم من مجموعة من البلدان وهي اليمن ودول الخليج. وتعدّ شبه جزيرة العرب هي الموطن الأوّل للغة العربية.
واللغة العربية الفصحى التي نتحدث بها اليوم والتي دُوّن بها القرآن الكريم، والأدب الإسلامي وقبله الشعر العربي الجاهلي، وهي اللغة التي أصبحت فيما بعد، لغة الحضارة العربية الإسلامية، وهي اللغة التي تحدّث بها سكان شمال شبه الجزيرة العربية في الماضي البعيد، وهم العدنانيون.
كما أنّ لدينا اللغة العربية الجنوبية، والتي كانت تستعمل في جنوب شبه الجزيرة العرب، وبالتحديد في اليمن، فهذه اللغة العربية الجنوبية والتي يطلق عليها أحيانا الحميرية، أو السبائية، وأحيانا الحضرمية، أو المعينية وتكلم بها قديما القحطانيون…
أما عن تاريخ ظهور اللغة العربية، فلا أحد يستطيع أن يجيب على ذلك بالضبط، لكن لدينا البيانات التاريخية. وأقدمُ نقوش وصلت إلينا عن هذه اللغة، تتراوح بين 1500 إلى 1000 عام قبل الميلاد. وتعدّ هذه أقدم الشواهد، وهي الثمودية واللحيانية والصَّفوية.
واللغة العربية الجنوبية تختلف عن اللغة العربية الشمالية، كما أنه في الفترة الممتدة من 1000 قبل الميلاد إلى غاية القرن الرابع بعد الميلاد، لدينا آلاف النقوش، والتي عُثر عليها في المنطقة الممتدة من اليمن جنوبا حتى سوريا شمالا. وهذه النقوش دوِّنت بالخط المسند، وهي الكتابة العربية الجنوبية، ولكن اللغة التي استُعملت في هذه النقوش ليست لغة عربية جنوبية ولكن لغة عربية شمالية. إذًا، اللغة العربية التي يُبحث عليها في تلك النقوش والتي دوِّنت منذ 1000 عام قبل الميلاد حتى القرن الثالث أو الرابع بعد الميلاد، والتي عُثر عليها في المنطقة من جنوب شبه الجزيرة العرب إلى شمالها وتحديدا الجهة الغربية. وهذه النقوش بمثابة شواهد عن طفولة اللغة العربية.
والاختلافات بين اللغة العربية الجنوبية والشمالية هي اختلافات لهجية وليست بنيوية، فاللغة العربية الجنوبية والشمالية تلتقيان تحت سقف واحد هو السقف العربي. أما الذين يريدون أن يفصلوا بين اللغة العربية الجنوبية والشمالية، على أساس أن كل لغة منفردة بذاتها، فهذا غير صحيح، ويفتقر إلى العلمية والمنطق والدقة.
واللغة العربية الشمالية، والتي يعدّ موطنها شمال شبه الجزيرة العربية، كانت معها عدة لغات أخرى، مثل اللغة الكنعانية، والأرامية، والسريانية، والعبرية، ولغات أخرى.. وهناك من يقول إن اللغة العربية التي نتحدث بها اليوم، هي بنت اللغة الأرامية.
والحقيقة، بأن الذين ينسبون اللغة العربية إلى الأرامية، يقولون كلاما غير صحيح، سواء من الناحية المعرفية أو من التاريخية، فهو كلام مقاهي إن صح التعبير. والكلام الصحيح أنه في علم اللغة، فالعربية تنتمي إلى أسرة لغوية تسمَّى أسرة اللغات السامية، وهذه اللغات، هي العربية، والأمازيغية، والقبطية، والعبرية، والسريانية، والآرامية، والبابلية، والفنيقية، والحبشية… هذه اللغات تفرعت عن أصل واحد، وهذا الأصل، لم يصلنا، فهو مفقود. ونفس الشيء ينطبق على اللغات الهندو- أوروبية، مثل اللاتينية والإغريقية والفاريسية القديمة… كلها تعود إلى أصل واحد، وهي اللغة الهندية الأوروبية الأم، وهو مفقود أيضا. لكن بالنسبة للغات مثل الاسبانية والايطالية والفرنسية والبرتغالية فهي تعود إلى اللغة اللاتينية.
وتعدّ اللغة العربية -بحسب علماء اللغة والمستشرقين الكبار- أقرب إلى اللغة السامية الأم، كما أن اللغات مثل الآرامية والسريانية والأمازيغية والبابلية والقبطية والعبرية… هي مثل اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية أخرى لبقية الدول العربية… فالأمازيغية بالنسبة للعربية مثل اللهجة الجزائرية بالنسبة للعربية الفصحى.
فقد تم الرجوع مثلا إلى اللغة العربية لاسترجاع بعض اللغات القديمة التي فُقدت، وهذا بسبب قرب اللغة العربية إلى اللغة السامية الأم.
وأول من وظف العودة إلى اللغة العربية لاستنباط لغتهم المفقودة، هم أحبار اليهود المستعربون في الحواضر الإسلامية، في العصر العباسي مثلا، وخاصة في الأندلس وأشهرهم، كان سعيد ين يوسف الفيومي، ومروان بن الجناح القطبي، ويهودا بن قريش، هؤلاء وظفوا القرابة بين اللغة العربية والعبرية، لتفسير ما استعجم عليهم، من غريب التوراة، إذ يوجد مئات الكلمات في التوراة غير مفهومة بالنسبة لليهود، وقد فسّرها مروان بن الجناح القطبي وهو أهم عالم لغوي يهودي، ومنزلته في النحو العبري مثل منزلة سبويه عندنا في اللغة العربية.
وفي العصر الحديث، وظف عزر بن يهودا اللغة العربية، في تطوير العبرية الحديثة، وقال هذا اللغوي اليهودي، بأن كل الكلمات التي هي موجودة في اللغة العربية، وغير موجودة في العبرية، هي في الأصل كانت في اللغة العبرية القديمة، ولكنها ضاعت، واليوم علينا أن نستردها من العربية ونضمها إلى اللغة العبرية.
ولم يتحرر الخط العربي من هيئته القديمة إلا بعد أن كَتَبَ به الحجازيُّون مدة قرنين من الزّمان. وظلت الكتابة العربية قبل الإسلام مقصورة على المواثيق والأحلاف والصُّكوك والرسائل والمعلّقات الشعرية، وكانت الكتابة آنذاك محصورة في الحجاز. ويعدّ القرن السابق لنزول القرآن الكريم، بمثابة فترة تطوّر مهمّ للغة العربية الفصيحة، وصلت بها إلى درجة راقية، ويدلُّ على ذلك ما وصل إلينا على ألسنة الرُّواة من الشِّعر والنَّثر الجاهليين.
إن اللغة العربية هي أضخم لغة، وقد ابتلعت كل اللغات السامية، والدليل أن معجم اللغة العربية هو أضخم معجم في اللغات السامية. واللغات الموجودة في الوطن العربي قبل الإسلام هي في الحقيقة لغات من المنبع ذاته، أي أنها لغات سامية، وبعد انتشار الإسلام وتحديدًا في عهد الخليفة عبد المالك بن مروان، امتدت الخلافة من الصين والهند إلى غاية الأندلس مرورا بالعراق والشام وغزة وشمال إفريقيا، أدخل الخليفة، اللغة العربية كلغة تواصل ولغة رسمية في الدولة.
واللغة العربية هي لغة الدين، ثم لغة التعليم، ولغة التواصل في الدولة الإسلامية. وعندما تراجعت الدولة الإسلامية وانحصرت ابتداءً من القرن 12ميلادي، بعد سقوط بغداد، ثم في القرن 15 ميلادي مع سقوط الأندلس، انحسر نفوذ اللغة العربية الجغرافي، واقتصر على المنطقة التي تسمى اليوم “الوطن العربي”.
وفي عهد الخليفة عبد المالك بن مروان تعربت الدولة الإسلامية، من الصين إلى الأندلس، ولكن بعد سقوط بغداد ثم الأندلس، تقلصت أرض الخلافة، ولم تبق اللغة العربية لغة تواصل هناك مثل الصين والهند وإيران، وتركيا، واسيا الوسطى، وبعض الدول الأوروبية… لأن التقاليد كانت في تلك البلاد مختلفة جذريا. أما أهل العراق وأهل الشام وشمال إفريقيا، فكانوا يتحدثون بلغات سامية أخت العربية مثل البابلية في العراق والآرامية في الشام، وشمال إفريقيا يتحدثون بالامازيغية وفي مصر القبطية وهي بنات عمّ اللغة العربية. وهذا ما جعل عملية التعريب سلسة وسهلة في هذه البلاد
No comments:
Post a Comment