قد نجحت حركة المقاومة الإسلامية في التربّع على عرش القضية الفلسطينية، بما خاضته من معارك ضدّ العدو الصهيوني وما بذلته من قوافل الشهداء الميامين طيلة أكثر من ثلاثة عقود، وآخرها معركة “طوفان الأقصى”.
إذا كانت تلك المحطة الخالدة والمفصلية قد انتشلت القضية المركزية من دهاليز الوأد الإقليمي والدولي ومخططات التصفية النهائية، مقابل تعريتها للكيان الإسرائيلي بشكل غير مسبوق أخلاقيّا وقانونيّا، لتكسب إلى جانبها تأييدا شعبيّا عارما خارج أقطارها الحضاريّة، فإنّ تكلفتها الباهظة على كافة المستويات توازي أهدافها الإستراتيجية.
ومن أبعاد تلك التكلفة القاسية، هو بلا شكّ، فقدان تنظيم المقاومة لعدد كبير من كوادره البشرية، في مواقع عسكرية وسياسية واجتماعية، مثلما تكشفت عنه مؤخرا معركة “الطوفان الجارف”، إذ قضى خلالها نخبة من رموز التحرير الفلسطيني شهداء على درب الحرية، يتقدمهم السادة إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف وصالح العاروري ومروان عيسى، وغازي أبو طماعة، ورائد ثابت، ورافع سلامة وآخرون من بواسل فلسطين.
إن رحيل هؤلاء الأبطال الكبار في عزّ الجهاد والتألق، يشكّل، يقينا، خسارة فادحة في هرميّة التنظيم، لكنّها لن تكون أبدا قاصمة لظهر المقاومة، بل هي عاصمة للقضية المقدّسة من النسيان والاندثار بتعاقب الأجيال في الشتات.
لقد تمثلت قيادات “حماس” في فلسطين مقولة سيد قطب، رحمه الله: “إن كلماتنا ستبقى عرائس ميتة من الشموع، حتى إذا متنا في سبيلها دبّت فيها الروح، وكتبت لها الحياة”، فتقدّمت صفوف شعبها في معركة الحرية والكرامة، لتكون النموذج والقدوة في الذود عن الوطن، ملهمة لكل الأجيال روح التضحية والتجرّد ونكران الذات، وبإعلان استشهادهم، سقطت أسطوانات التطبيع والخيانة، والتي طالما روّجت لحياة خيالية في القصور الفارهة والتنعّم بملذّات الدنيا الفانية.
لم يكن همّ الرجال العظماء من قادة المقاومة الإسلامية الألقاب الرسمية والسياسية والتنظيمية وأضواء العواصم الدولية، فهي عندهم مجرد وسائل لتحقيق الهدف الأسمى، إذ تعلّقت همتهم العليا بالجهاد لأجل التحرير أو الشهادة دونه، لذلك، رأينا منهم شجاعة أسطورية وأخلاقا في الثبات والاحتساب من زمن الصحابة الأوائل ونماذج للزهد لم يعد لها مثيل في هذا الزمن.
هل تذكرون كيف استقبل الشهيد أبو العبد هنية، مبتسما مطمئنا، خبر استشهاد كوكبة من فلذات كبده في ريعان الفتوّة والشباب دفعة واحدة؟ وهل فكّرتم كيف يترك الشهيد يحيى السنوار صغيره إبراهيم وإخوته بعدما رزق بهم على كبر؟ أما بيت رئيس أركان كتائب “القسام” الشهيد أبو خالد، فقد وفّر علينا عناء السؤال! والنماذج أكثر من أن تحصى في علوّ همّة هؤلاء القادة السادة، وإيمانهم الصّخري، وهوان الدنيا عندهم واسترخاص أنفسهم أمام قضية الأمة التي خذلتهم في الوقت الحرج.
إن ما أبانت عنه المقاومة، عقب وقف العدوان، من براعة وقوّة وانضباط وتحكّم فوق الميدان، يثبت أن هؤلاء الرجال قد بنوا، في زمن الصّغار والصّغار، تنظيما تحريريّا صلبا وعصيّا على الارتباك برحيل قادته المؤسّسين، وحادي دربهم في ذلك وصية الشهيد ديدوش مراد، رحمة الله: “إذا ما استشهدنا دافعوا عن أرواحنا.. نحن خلقنا من أجل أن نموت، ولكن ستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة”.
اليوم صار هؤلاء الشهداء شموعا وضّاءة على طريق الحرية، ونماذج للعطاء السخيّ في سبيل الوطن، فلا خوف من رحيلهم، فقد أدّوا واجبهم الفردي، بينما يظل أثرهم خالدا في تعبئة الأجيال وتحفيزها على بذل الأرواح في سبيل النصر الموعود.
نحن على ثقة أن المقاومة ولّادة للرجال والقادة والجنود، وقد ضربت جذورها العميقة وسط حاضنة شعبية صلبة، تسلّحت بعقيدة إسلامية وطنية راسخة، فلن تفرّط قيد أنملة في واجب المواجهة المفتوحة مع عدوها الصهيوني، بكل ما تملك، مهما بلغ بها من الوجع والخسارة، عكس ما يتوهّمه الجاهلون بطبيعة الفلسطينيين الأحرار.
إننا لا نقدّم الدروس من فراغ، بل نحن أبناء الجزائر، قبلة الشهداء والثوار، الذين خبروا مرارة الاستعمار طيلة 132 سنة من المقاومات والثورات، دفعنا خلالها نحو 6 ملايين شهيد على مذبح الحرية الحمراء، فلم تذهب هدرا تضحيات الأمير عبد القادر وإخوانه اللاحقين أحمد باي وبوعمامة والحداد والمقراني وبوزيان وبن شهرة وسيدي الشيخ وبومعزة ونسومر وغيرهم كثير، إذ كانت كلها وقودا لثورة نوفمبر المظفرة عام 1954، مع ما بينهما من فارق زمني شاسع بعقود طويلة.
ويوم اندلعت شرارة ثورة التحرير الكبرى، سقط معظم قادتها المفجّرين تباعا في ساحات الشرف، فلم يزدها ذلك إلا لهيبا وتجذّرا في الأوساط الشعبية وقدرة على اختراق المشروع الاستعماري والتجنيد الداخلي والخارجي لصالح القضية الوطنية، لذلك لا تحزنوا، يا أهلنا في فلسطين وأنصار المقاومة في كل مكان، لفقدان القادة وإن سمت منازلهم وعزّ فراقهم، لأنهم سيكونون -برمزيتهم ومرجعيتهم في مخيال الأجيال- أشدّ على العدو وأنكى من وجودهم كأفراد، ولله العزة ولرسوله وللمقاومة، ولكن المطبّعين والمخذّلين لا يعلمون.
عن عبد الحميد عثماني
No comments:
Post a Comment