blog spot

Monday, March 21, 2016

هكذا ساهمت المناهج التربوية في انهيار مستوى التعليم

 لقد استطاعت وزيرة التربية الحالية كسر كثير من الجمود الذي أحاط بملف التربية والتعليم لسنوات عديدة وفتحت ملفات لم يجرؤ أحدٌ على فتحها لأزيد من عقدين، ولكن مع الأسف الشديد لم تحظ الملفات الأشد ارتباطا بانهيار مستوى التعليم بنفس الاهتمام الذي حظيت به قضايا خلافية من شأنها تعميق الخلاف المجتمعي ولم تكن يوما محل إجماع، بينما كان من الممكن التركيز على ما يمكن أن يجتمع عليه أغلب فئات الشعب ونخبه بعيدا عن الاستقطاب الإيديولوجي واللغوي.
من وجهة نظر الكاتب، فإنه من الأسباب الرئيسة التي ساهمت في انهيار مستوى التعليم وتدني تحصيل التلاميذ في العقدين الأخيرين بشكل خاص، هو محتوى المقررات الدراسية وكثافة المادة العلمية التي تُحشى للتلاميذ والطلبة في الزمان والمكان الخطأ.
من أهم مخرجات إصلاحات لجنة بن زاغو  (والتي كانت السيدة الوزيرة أحد أعضائها) هي إدخال مواد  التاريخ والجغرافيا والتربية العلمية والتكنولوجية وتربية المدنية ابتداءً من مرحلة الابتدائي، حيث صار التلميذ يدرس ما يقارب العشر مواد وهو في السنة الثالثة ابتدائي ويحمل على ظهره حقيبة تزن ثلث وزنه تقريبا. لم يتوقف الأمر هنا، فالناظر إلى محتوى هذه الكتب يقف على أمور عجيبة ويصيبه الذهول. فلقد أصبح من المفترض أن يعرف التلميذ، الذي لم تتجاوز سنه العاشرة، تاريخ الجزائر القديم والحديث من ماسينيسا ويوغرطا والدولة النوميدية والبيزنطيين والرمان والوندال، إلى تفاصيل الاستعمار والثورة وقياداتها.. ويعرف في الجغرافيا كل أنواع التضاريس والمناخ والزراعة والثروات المعدنية... وفي العلوم يعرف تشريح الأرنب بالتفصيل والجهاز الهضمي للإنسان بالتفصيل، وتشريح  جسم الإنسان والدورة الدموية وكيفية امتصاص النبات للماء وظاهرة التمثيل الضوئي وغيرها من المفاهيم العلمية.. ويدرس قانون الصحة والإدارة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمجالس النيابية... إلخ، بل وصل الأمر إلى تعليم تلميذ لم يبلغ سن العاشرة الإسعافات الأولية والعاجلة، بينما لو فكر واضع هذه المقررات قليلا، لأدرك أن التلميذ في هذه السن لا يستطيع أن يصمد حتى أمام هول قطرة دم واحدة، فما بالك بأن يقوم بعميلة التنفس الاصطناعي في حادث.
في الحقيقة من الصعب فهم الهدف الذي كان يصبو إليه واضعو هذه المناهج؟ وهل فعلا يؤمنون بأن فترة الابتدائي وهذه السن هي المرحلة المُناسِبة لتعليم أو تلقين الأطفال هذه المفاهيم والمعلومات التاريخية والعلمية؟ وهل فعلا سترسخ في أذهانهم؟ هل من المنطقي أن يكون التلميذ في سن العاشرة مهيئا نفسيا وذهنيا لاستيعاب معلومات تاريخية  تعود إلى آلاف السنين وتفاصيل تاريخية وإدراك أهميتها، بينما هو ما زال يتلمّس إدراك الحاضر وما حوله؟  
الناظر إلى محتوى المناهج الدراسية، بما فيها فترة الإعدادي، يُخيل إليه أنه بمجرد وصول أبنائنا إلى البكالوريا أو قبلها فإننا سنكون بصدد  تلاميذ أقرب إلى الموسوعات العلمية المتنقلة، بينما واقع الأمر أنه لا شيء من ذلك حدث، فالأغلبية الساحقة من تلاميذنا والذين تستقبلهم جامعاتنا أصبحوا أقرب إلى ذوي الاحتياجات الخاصة من شدة تعلقهم بالدعم والتلقين وغياب كلي  للخيال والقدرة على التفكير الذاتي.
 لا يمكن لتلميذ أن يؤمن بالكرامة وحب الوطن وهو يرى كل شيء حوله يسير بعكس هذه القيم ويرى معلمه أو أستاذه يبتزه بكل السبل حتى يجبره على الاشتراك في دروس الدعم، ولا يمكن لطفل أن يشعر بالكرامة والمواطنة وهو يقطع الجبال والوديان لكي يصل إلى مدرسته منهكا ويعود إلى بيته أشد إنهاكا.  
ما يعرفه المختصون في علوم التربية، أن كل منظومة تربوية في العالم تضع لها أهدافا قصيرة وأخرى بعيدة المدى، ولكن ما زلت أتساءل عن الهدف الذي وُضعت على أساسه هذه المقررات وسُطرت هذه المنظومة؟ فلو أخذنا أفضل المنظومات التربوية من ناحية المردودية والفعالية في العالم، مثل المنظومة التعليمية في سويسرا وألمانيا على سبيل المثال، فإننا نجد التلميذ لا يدرس شيئا في مرحلة الابتدائي عدا اللغة والحساب،  بالإضافة إلى نشاطات ميدانية ويتمّ تعليمهم الخياطة والطبخ، ولا يُمتحنون إلا في مراحل متقدمة، ولكن هذه المنظومة في نهاية المطاف تخرّج أفضل المهندسين والعلماء والأطباء والإداريين والحرفيين والتقنيين.  في هذه الدول والتي لا يتجاوز عدد التلاميذ عشرين أو خمس وعشرين تلميذا في القسم الواحد، لا يتم تلقينهم الكتب، ولا القيم التي تُحشى لتلاميذنا في أقسام يتجاوز عددهم فيها الأربعين.
 لهذا تمنيت أن الوزيرة التي أحدثت حراكا كبيرا في قطاع التربية، وبدل أن تُدخل المجتمع في نقاشات عقيمة، اكتفت بحذف هذا الكم من الحشو غير العلمي وقررت الاكتفاء بتدريس اللغات والحساب بشكل أساسي.  أشير هنا إلى أن  كثيرا من القضايا الوطنية والتاريخية والثقافية والعلمية يمكن عرضها على التلميذ من خلال وضعها في نصوص قراءة مختارة بعناية بما يتناسب وسن الطفل ومحيطه، حيث تنمي لغته وفكره معا وفي نفس الوقت نوفر مئات الملايير التي تصرف سنويا على طباعة هذه الكتب، وكذلك ونوفر الوقت للتلميذ لتنمية مهاراته اللغوية والحسابية  ويعيش طفولته الطبيعية في هذه المرحلة الحرجة بدل هذا التشويش شبه المتعمّد على أذهانهم بمعلومات لن يرسخ منها شيئا في نهاية المطاف،  لأنها تُعطى في الوقت الخطأ وفي المكان الخطأ وبالأسلوب الخطأ، وأثبتت الأيام عقم هذه التجربة والإصلاحات التي كانت وبالاً على التعليم والتربية. 
أخيراً أشير إلى أن المواطنة وحبّ الوطن والكرامة وحقوق الإنسان والهوية والديمقراطية وغيرها من القيم التي يتم حشوها للتلاميذ، ليست قِيما تُلقّن بل هي قيم يكتسبها الطفل من محيطه ومدرسته من خلال الممارسة الحقيقية. فلا يمكن لتلميذ أن يؤمن بالكرامة وحب الوطن وهو يرى كل شيء حوله يسير بعكس هذه القيم ويرى معلمه أو أستاذه يبتزه بكل السبل حتى يجبره على الاشتراك في دروس الدعم! ولا يمكن لطفل أن يشعر بالكرامة والمواطنة وهو يقطع الجبال والوديان لكي يصل إلى مدرسته منهكا ويعود إلى بيته أشد إنهاكا. 
إن التلاميذ في سويسرا و ألمانيا واليابان وغيرها من الدول الغربية لا يقفون كل صباح  لتحية العَلم، ولكنهم عندما يكبرون يخلُصون لأوطانهم ويتمسّكون بها، بينما أبناؤنا الذين يحيّون العلم كل صباح، ما إن يشتد عودُ أحدهم حتى  يكون حلمه الأول أن يهاجر إلى الضفة الأخرى التي لا يقف فيها التلاميذ لتحيّة العلم! فهل أدركنا أين الخلل؟.

No comments:

Post a Comment