blog spot

Monday, March 21, 2016

بين البحث العلمي‮ ‬والرداءة العلمية (2)

 دعنا الآن نعود إلى صفات وسمات المجلات المشبوهة التي‮ ‬أصبح النشر فيها موضة وسمة شبه عامة وسط الأساتذة الجامعيين الجزائريين‮.‬
في‮ ‬الحقيقة،‮ ‬وضعُ‮ ‬تصنيف معياري‮ ‬واضح لهذه المجلات أصبح اليوم صعبا؛ نظرا إلى أن الأمر أصبح أكثر احترافية واستطاعت العديد من هذه المجلات اختراق جميع القواعد،‮ ‬ولكن هناك مؤشرات واضحة تدل،‮ ‬بما لا‮ ‬يدع مجالا للشك،‮ ‬أن هذه المجلة أو تلك تدخل في‮ ‬دائرة الشبهة،‮ ‬وربما الدعارة العلمية،‮ ‬ويجب ألا‮ ‬يُعتدّ‮ ‬بما‮ ‬يُنشر فيها‮. ‬وسأحاول إعطاء أهمّ‮ ‬المؤشرات التي‮ ‬لا أعتقد أن شخصا مُنصفا‮ ‬يستطيع نكران جدية هذه المعايير لتحديد مدى جودة المجلات العلمية‮:‬
1‭. ‬الأغلبية الساحقة من المجلات التي‮ ‬تطلب أجرا من المؤلف لقاء نشر أبحاثه هي‮ ‬مجلاتٌ‮ ‬مشبوهة،‮ ‬إذ إن الاستثناءات في‮ ‬بعض التخصصات قليلة جدا ومعروفة،‮ ‬وهي‮ ‬تعمل بهذا النظام منذ عقود وقبل بروز ظاهرة النشر مقابل الدفع‮.‬
2‭. ‬هناك شيءٌ‮ ‬ملحوظ وهو أن كل مجلة تكاد تُصنّف نفسها بنفسها‮: ‬فإذا رأيت أن أغلب من‮ ‬ينشرون في‮ ‬المجلة هم من دول العالم الثالث‮ (‬الصين،‮ ‬الهند،‮ ‬السعودية،‮ ‬مصر،‮ ‬إندونيسيا،‮ ‬دول أوربا الشرقية،‮ ‬الجزائر،‮ ‬تونس،‮ ‬إلخ‮...) ‬فاعلم أن المجلة تندرج ضمن شبكة الرداءة العلمية،‮ ‬لأنه لا‮ ‬يُعقل ألا‮ ‬يجتمع في‮ ‬هذه المجلة إلا باحثون من دول ترزح في‮ ‬التخلف أو منتشرة فيها الرداءة وغياب الصرامة والتقاليد العلمية‮.‬
إذا رأيت أن أغلب من‮ ‬ينشرون في‮ ‬المجلة هم من دول العالم الثالث‮ (‬الصين،‮ ‬الهند،‮ ‬السعودية،‮ ‬مصر،‮ ‬إندونيسيا،‮ ‬دول أوربا الشرقية،‮ ‬الجزائر،‮ ‬تونس،‮ ‬إلخ‮...) ‬فاعلم أن المجلة تندرج ضمن شبكة الرداءة العلمية‮.‬
قد‮ ‬يقول قائلٌ‮ ‬هنا إن الصين أو الهند لديهما علماء كثر ومراكز علمية جادة ومرموقة‮. ‬بالفعل،‮ ‬هذا صحيح،‮ ‬ولكن الطبقة العلمية الجادة في‮ ‬الهند والصين تنشر في‮ ‬مجلات علمية مرموقة ومحترمة‮.. ‬والهند والصين ـ بحكم عددهم الكبير ـ فإن سكانهما مِلل ونِحل كبيرة،‮ ‬ومسألة الغش والرداءة العلمية متفشّية في‮ ‬مؤسساتهما العلمية،‮ ‬مثل منتجاتهما الصناعية‮. ‬لهذا،‮ ‬فإنه ليس من المعقول أن نصنف مجلة علمية بأنها جادة ومحترمة،‮ ‬بينما لا نجد أساتذة وباحثين من معاهد علمية جادة ومرموقة‮ ‬ينشرون فيها،‮ ‬فهذه المجلات تخلو تماما من أي‮ ‬اسم من معاهد ومراكز علمية معروفة،‮ ‬حتى وإن وُجد باحث من دولة‮ ‬غربية متقدمة،‮ ‬فإنه‮ ‬يكون من جامعة نكِرة؛ فهناك جامعاتٌ‮ ‬في‮ ‬أمريكا ودول‮ ‬غربية مستواها متدنٍّ‮.‬
المشكل اليوم أن الأمر تعقّد وأصبح أكثر احترافية كما أسلفنا،‮ ‬إذ استطاعت الكثير من هذه المجلات،‮ ‬إما اختراق شروط أو شراء قواعد بيانات‮ "‬تومسون ـ رويترز‮" ‬و"سكوبيس‮" ‬وغيرها من التصنيفات التي‮ ‬أصبح الكثير‮ ‬يتغنون بها اليوم ويعتبرونها معيارا كافيا،‮ ‬بينما الحقيقة أن المسألة كلها أقرب إلى التجارة وتسويق الوهم إلى دول العالم الثالث،‮ ‬فالأمر أصبح‮ ‬يدرّ‮ ‬أموالا رهيبة،‮ ‬وحتى‮ "‬تومسون ـ رويترز‮" ‬متورطة ماديا في‮ ‬هذه القضايا فهي‮ ‬ليست جمعية خيرية‮.‬
ثمة أمثلة عديدة عن هذه المجلات،‮ ‬ولقد كنتُ‮ ‬شاهدا على عدد من حالات الترقية والحصول على الدكتوراه بواسطة هذه المجلات،‮ ‬وآخرها كانت لمجلة في‮ ‬الكيمياء مصنّفة ضمن قاعدة‮ "‬سكوبيس‮" ‬ومجانية،‮ ‬ولها نسخة إلكترونية‮ (‬وقيل مطبوعة أيضا‮) ‬تصدر في‮ ‬رومانيا‮. ‬عندما نلقي‮ ‬نظرة على أسماء من‮ ‬ينشرون فيها،‮ ‬نجدهم من نفس المجموعة ومن الدول التي‮ ‬أشرنا إليها،‮ ‬بل إن أحد الباحثين نشر في‮ ‬عدد واحد خمسة مقالات،‮ ‬بينما نشر في‮ ‬باقي‮ ‬الأعداد من مقال إلى ثلاثة مقالات‮... ‬وكأن الرجل‮ ‬يُعِدّ‮ ‬عجة بيض أو‮ "‬فريت أومليت‮" ‬وليس بحوثا علمية‮!‬
يمكن أيضا الإشارة إلى أحد مشاريع البحث الوطنية التي‮ ‬تُعرف بـPNR‮ ‬،‮ ‬كان حصيلته مقالة واحدة في‮ ‬الرياضيات نُشرت في‮ ‬مجلة لا تختلف كثيرا عن مجلة الكيمياء التي‮ ‬أشرنا إليها سابقا‮.. ‬بينما تحصّل الأساتذة،‮ ‬أعضاء فريق البحث هذا،‮ ‬على نصف مليار سنتيم دعما‮ (‬مكافئات وتمويل‮)!‬
والأمر‮ ‬يصبح أكثر مأساوية إذا ما تذكّرنا أن كل ما هو مطلوب لمناقشة الدكتوراه في‮ ‬الجزائر هو نشر مقالة علمية واحدة،‮ ‬وللتأهيل الجامعي‮ ‬مقالة واحدة أيضا‮ (‬ربما ستلغى هذه الشروط أصلا‮!). ‬ولهذا،‮ ‬إذا عجز الأستاذ الباحث تماما عن نشر مقالة واحدة في‮ ‬مجلة محترمة ولم‮ ‬يجد إلا المجلات المشبوهة فهذه كارثة حقيقية‮. ‬والأجدر بهذا الباحث أن‮ ‬يبحث عن الخلل،‮ ‬ويبذل جهدا حتى‮ ‬ينشر في‮ ‬مجلة محترمة ولا‮ ‬يستسلم للرداءة العلمية‮.‬
‬إذا عجز الأستاذ الباحث تماما عن نشر مقالة واحدة في‮ ‬مجلة محترمة ولم‮ ‬يجد إلا المجلات المشبوهة فهذه كارثة حقيقية‮. ‬والأجدر بهذا الباحث أن‮ ‬يبحث عن الخلل،‮ ‬ويبذل جهدا حتى‮ ‬ينشر في‮ ‬مجلة محترمة ولا‮ ‬يستسلم للرداءة العلمية‮.‬
في‮ ‬الأخير،‮ ‬نشير إلى أنه قبل الحديث عن أستاذ باحث أو باحث علمي‮ ‬جيد،‮ ‬لا بد من توفر شرط ضروري‮ ‬وليس كافيا،‮ ‬وهو أن‮ ‬يكون الأستاذ متمكنا من مادته العلمية الأساسية،‮ ‬فلا‮ ‬يُعقل لا منطقا ولا علما أن‮ ‬يكون لدينا باحثٌ‮ ‬جيد،‮ ‬وهو‮ ‬يفتقد للتكوين العلمي‮ ‬الجيد،‮ ‬ويعجز حتى عن تقديم محاضراته بشكل سليم،‮ ‬ولا‮ ‬يلمّ‮ ‬بأساسيات تخصصه‮. ‬وعندما نقول أساسيات تخصصه،‮ ‬فنحن نتكلم مثلا عن أساسيات الفيزياء‮ (‬في‮ ‬مستوى الليسانس والماستر‮) ‬أو الرياضيات أو الكيمياء،‮ ‬إلخ‮. ‬بطبيعة الحال،‮ ‬فنحن لا نركز هنا على الناحية البيداغوجية رغم أهميتها،‮ ‬بل نركز على الإلمام بالأساسيات قبل الحديث عن الإبداع‮.‬‭ ‬
إن التعليم والجامعات الجزائرية اليوم‮ ‬يمرّان بأسوإ أيامهما،‮ ‬إذ تفشت الرداءة العلمية،‮ ‬وضحاياها كثر‮... ‬منهم المغرر بهم،‮ ‬خاصة طلبة الدكتوراه الذين أصبح كثيرٌ‮ ‬منهم‮ ‬يعتقد أن هذا هو البحث العلمي،‮ ‬ومنهم صنّاع الرداءة والمشاركون فيها،‮ ‬وهؤلاء اليوم‮ ‬يوهمون الناس والأساتذة بأنهم‮ "‬باحثون‮" ‬ويحصون مقالاتهم التي‮ ‬لا وجود لها إلا في‮ ‬مجلات لا تستحق حتى ثمن الورق الذي‮ ‬تطبع به‮.‬
البحث العلمي‮ ‬للأستاذ الجامعي‮ ‬هو دليل حياته المهنية،‮ ‬ولكن الأفضل منطقا وخلقا وشرعا وعلما أن‮ ‬يكفّ‮ ‬الأستاذ عن النشر بدل النشر في‮ ‬هذه المجلات سيئة السمعة التي‮ ‬تؤسس للرداءة العلمية‮. ‬وعلى الإنسان ألا‮ ‬يعتقد أنه بإمكانه خِداع الناس،‮ ‬فكما‮ ‬يقول المثل‮: "‬يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت،‮ ‬وبعض الناس كل الوقت،‮ ‬لكنك لن تستطيع خِداع كل الناس كل الوقت‮"‬،‮ ‬أو كما‮ ‬يقول الشاعر‮: ‬
ومهما تكن عند امرئ من خليقة‮ ... ‬وإن خالها تخفى على الناس،‮ ‬تُعلم

No comments:

Post a Comment