blog spot

Monday, March 21, 2016

بين البحث العلمي‮ ‬والرداءة العلمية (1)

 تداولت وسائل الإعلام منذ أسابيع تصريحا لوزير التعليم العالي‮ ‬مفاده أنه سيتم إلغاء شرط نشر مقالة علمية لمناقشة الدكتوراه،‮ ‬وكذلك هناك توجّه شبه مؤكد إلى إلغاء شرط نشر مقالة علمية للحصول على التأهيل الجامعي‮. ‬وهذا جاء تلبية لمطالب نقابات الأساتذة حسب ما تم تداوله‮. ‬
من الصعب أن‮ ‬يفهم المرء الطريقة التي‮ ‬يفكر بها المسؤولون عن قطاع التعليم العالي‮ ‬في‮ ‬الجزائر،‮ ‬فعلى الرغم من أن جميع المؤشرات تدل على انهيار تام لمستوى التعليم والبحث العلمي‮ ‬في‮ ‬الجزائر منذ سنوات عديدة،‮ ‬إلا أن هناك رغبة،‮ ‬فيما‮ ‬يبدو،‮ ‬في‮ ‬تسيير هذه الرداءة،‮ ‬بل ودفع الجامعة الجزائرية نحو رداءة أكبر،‮ ‬وربما تقنينها وحمايتها باللوائح والقوانين‮.‬
الهدف من هذه المقالة ليس مناقشة هذه القرارات التي‮ ‬جاءت لتُفرغ‮ ‬شهادة الدكتوراه من محتواها تماما،‮ ‬وربما تحوّلها إلى شهادة فخرية،‮ ‬إلا ما رحم ربك،‮ ‬ولا مناقشة تحويل مسألة التأهيل الجامعي‮ ‬إلى مجرد إجراء إداري‮ ‬بيروقراطي،‮ ‬لا‮ ‬يميز بين أستاذ وآخر،‮ ‬أو مجرد هِبة للجميع إلا من أبى،‮ ‬ولكن الهدف هو فتح موضوع ظاهرة خطيرة انتشرت في‮ ‬الأوساط العلمية الجزائرية منذ سنوات عديدة،‮ ‬وهي‮ ‬ظاهرة النشر العلمي‮ ‬المُخادِع والذي‮ ‬لا‮ ‬يمتّ‮ ‬للبحث العلمي‮ ‬الجاد والمحترم بصلة‮. ‬
وقد‮ ‬غدا هذا المسلك الطريق المتّبع تقريبا في‮ ‬قطاع عريض من أساتذة الجامعات للحصول على شهادة الدكتوراه،‮ ‬وكذلك في‮ ‬الترقية في‮ ‬الدرجات المختلفة،‮ ‬بل وصل الأمر إلى أن جامعات عديدة أنشأت مجلات داخلية في‮ ‬مجالات علمية وتكنولوجية وأصبح النشرُ‮ ‬فيها مقبولا كمعيار للترقية والحصول على شهادة الدكتوراه والتأهيل الجامعي‮. ‬هذه الظاهرة هي‮ ‬في‮ ‬الواقع أخطر وأكثر انتشارا من السرقة العلمية التي‮ ‬مازالت محصورة في‮ ‬نطاق محدود ويسهل كشفُها‮.‬
‬على الرغم من أن جميع المؤشرات تدل على انهيار تام لمستوى التعليم والبحث العلمي‮ ‬في‮ ‬الجزائر منذ سنوات عديدة،‮ ‬إلا أن هناك رغبة،‮ ‬فيما‮ ‬يبدو،‮ ‬في‮ ‬تسيير هذه الرداءة،‮ ‬بل ودفع الجامعة الجزائرية نحو رداءة أكبر،‮ ‬وربما تقنينها وحمايتها باللوائح والقوانين‮.‬
في‮ ‬الحقيقة،‮ ‬مسألة إنجاز البحوث العلمية كشرط للترقيات والحصول على الشهادات،‮ ‬مسألة‮ ‬يجب أن لا‮ ‬يختلف حولها اثنان في‮ ‬بلدان العالم الثالث،‮ ‬لأننا وبكل بساطة لا نمتلك معايير علمية داخلية ولا تقاليد ولا مرجعيات متفقاً‮ ‬عليها‮ ‬يمكنها أن تقيّم البحوث والجهود والإنجازات العلمية وخاصة في‮ ‬المجالات العلمية والتكنولوجية‮. ‬لهذا كان لزاما أن نلجأ إلى معيار خارجي‮ ‬محايد ألا وهو النشر في‮ ‬المجلات العلمية الدولية المُحكَمة،‮ ‬ولكن المشكلة التي‮ ‬أصبحنا نواجهها اليوم هي‮ ‬أن مصطلح‮ "‬المجلات العلمية الدولية المُحكمة‮" ‬لم‮ ‬يعد كما كان قبل عقود،‮ ‬بل‮ ‬غدا مصطلحا مائعا وسوقا اختلط فيه الغث بالسمين‮.‬
وللأسف،‮ ‬ومنذ عقدين على الأقل بدأت تظهر على الساحة مجلات علمية في‮ ‬كل التخصصات تقريبا،‮ ‬هي‮ ‬في‮ ‬الحقيقة أقرب إلى أوكار الدعارة ودكاكين النخاسة العلمية منها إلى مجلات علمية،‮ ‬فهي‮ ‬مجلات‮ ‬يؤسسها أشخاصٌ‮ ‬وهيئات مشبوهة،‮ ‬وليس لهم أي‮ ‬ماض علمي‮ ‬ولا إنجازات تُذكر،‮ ‬وهدفهم الرئيس هو إما جني‮ ‬المال‮ (‬وهذه السمة العامة‮) ‬أو صناعة شبكة علمية بعددٍ‮ ‬من المجلات التي‮ ‬تنسّق مع بعضها من أجل صناعة ما‮ ‬يعرف بعامل الأثر‮ ‬‭(‬Impact Factor‭) ‬ودخول قاعدة البيانات الشهيرة‮ ‬Thompson-Reuters‮  ‬والاستعانة بها في‮ ‬الترقيات وصناعة الوهم وتسويقه،‮ ‬ثم الانتقال إلى جني‮ ‬المال فيما بعد لأن الأمر صار سوقا تدرّ‮ ‬أموالا،‮ ‬وهناك‮  ‬دائما من هو مستعدّ‮ ‬لدفع مقابل مالي‮ ‬لينشر عمله‮.‬
تجدر الإشارة أولا إلى أن هناك مجلات تطلب مقابل النشر فيها مبالغ‮ ‬مالية من المؤلف‮. ‬ولكنها مجلات مرموقة جدا،‮ ‬بل ومن أفضل المجلات في‮ ‬تخصصاتها العلمية‮. ‬
السؤال الذي‮ ‬يطرح نفسه هو‮: ‬كيف نميّز هذه المجلات عن المجلات التجارية المحضة التي‮ ‬تغرق في‮ ‬الرداءة العلمية؟
في‮ ‬الحقيقة،‮ ‬لو كانت الضمائر حية والأمانة والكفاءة العلمية هي‮ ‬السيدة،‮ ‬فإنه‮ ‬يُفترض أن‮ ‬يكون كل أستاذ مطلعا على المجلات العلمية المحترمة في‮ ‬تخصصه وعلى تصنيفها،‮ ‬فهذا ليس بِدعا لمن مارس قليلا من البحث العلمي‮ ‬الجاد أو سأل أهل الاختصاص من الجادين‮. ‬كما أن المجلات العلمية المحترمة ليست كلها بالمستوى نفسه،‮ ‬فهي‮ ‬طبقات ومستويات‮: ‬منها الرفيعة جدا التي‮ ‬لا تنشر إلا عددا قليلا جدا من البحوث العلمية ذات المستوى‮. ‬وهنا ليس مطلوبا أن‮ ‬ينشر المرء بالضرورة في‮ ‬هذه المجلات،‮ ‬فليس كل الأساتذة علماء ومبدعين من الطراز الأول،‮ ‬ذلك أن الذين‮ ‬ينشرون في‮ ‬هذه المجلات هم ممن‮ ‬يمكن أن نسميهم طبقة‮ "‬الملوك العلميين‮" ‬والأمراء،‮ ‬وثمة أيضا فئة ثانية ممن‮ ‬يحصلون على أعلى الجوائز من نوبل وميدالية فيلدز وما حام حول حماها من التقديرات‮. ‬
غير أن هناك مجلات علمية عريقة كثيرة‮ (‬تصدر منذ عقود عديدة،‮ ‬ومنها ما‮ ‬يصدر منذ أزيد من قرن‮) ‬في‮ ‬كل التخصصات،‮ ‬ولديها معايير علمية محترمة،‮ ‬وأيضا مستوياتها متفاوتة،‮ ‬ومن‮ ‬ينشر فيها‮ ‬يعتبر باحثا علميا جادا،‮ ‬ومن المفترض أن هذه المجلات في‮ ‬متناول الباحثين الجزائريين الجادين‮. ‬كما أنه ليس ضروريا أن‮ ‬ينشر المرء عشرات المقالات فيها،‮ ‬بل‮ ‬يكفي‮ ‬أن‮ ‬ينشر مقالا كل سنة أو سنتين،‮ ‬ويحافظ على القيمة العلمية لما‮ ‬يُنشر وألا‮ ‬ينغمس في‮ ‬الرداءة‮ (‬فظروف العمل والبحث في‮ ‬الجزائر تختلف عن الغرب‮). ‬
تجدر الإشارة هنا إلى أن عددا لا بأس به من الباحثين الجزائريين‮ ‬ينشرون بانتظام في‮ ‬هذا المستوى من المجلات المحترمة حتى وإن لم‮ ‬يكن عددُهم كبيراً‮. ‬ولكن‮ ‬يبقى أن هؤلاء هم المنارة الحقيقية للبحث العلمي‮ ‬في‮ ‬الجزائر على الرغم من أنهم أناس لا‮ ‬يسمع عنهم أغلب الجامعيين في‮ ‬الجزائر،‮ ‬فهم عادة أقل صراخا ويعملون في‮ ‬صمت ولا تستهويهم الأضواء ولا المناصب ولا تضخيم عدد المقالات‮.‬
يُتبع.....

No comments:

Post a Comment