blog spot

Thursday, April 23, 2015

مفارقات .. مزرية

يقول العالم تيودور شولز الحائز على جائزة نوبل في‮ ‬الاقتصاد‮: "‬لا ثروة إلا ثروة الرجال‮" ‬والقصد أن الإنسان هو دائما الأساس في‮ ‬كل تنمية؛ والمسألة الجوهرية تتمثل في‮ "‬إنعاش التفكير التنموي‮" ‬لحل المشكلات التي‮ ‬تعوق حركة التنمية وعلى رأس هذه المشكلات الوعي‮ ‬بقيمة الوقت وقيمة العمل‮..‬
هذه الحقيقة الناصعة لا تكاد تخطر ببال‮ "‬المنظرين والمخططين‮" ‬عندنا لتحقيق‮ "‬التنمية الشاملة"؛ وهي‮ ‬أن القيم،‮ ‬أي‮ ‬الإنسان،‮ ‬هي‮ ‬التي‮ ‬تضمن للتنمية القدرة الذاتية على الحركة المنتجة والاستمرار فيها،‮ ‬عندما تتأجج هذه القيم فعلا في‮ ‬ضمير هذا الإنسان‮.‬
وهذا معناه إحكام الصلة بين‮ "‬التربية والتنمية‮" ‬ثم بين التنمية والتوجه الثقافي‮ ‬والإعلامي‮ ‬العام للمجتمع‮.‬
ولننظر إلى واقعنا من هذه الزاوية ولنبحث عن أي‮ ‬لون من ألوان الصلة بين الانسان المدعو إلى تحقيق هذه التنمية وبين‮ "‬مضامين‮" ‬التوجه الثقافي‮ ‬والإعلامي‮ ‬العام،‮ ‬ونوع القيم التي‮ ‬تعمل من أجل إرساخها ونشرها وتعميقها؟ هل هناك تصور واضح لصلة من الصلات آصلا؟‮ ‬
إن المفكرين‮ "‬المنظرين‮" ‬في‮ ‬البلاد المتقدمة،‮ ‬عندما‮ ‬يؤكدون اليوم أن أساس أي‮ ‬مشروع أو مخطط إنما هو الإنسان فإنهم‮ ‬يعنون بذلك القيم الحضارية الأصيلة لهذا الإنسان وتراثه الفكري‮ ‬والروحي،‮ ‬من لغة وتقاليد وأعراف؛ بمعنى أن السر هو في‮ ‬حسن‮ "‬توظيف‮" ‬هذه القيم لتحقيق التنمية والتقدم وليس في‮ "‬تكييفها وتمييعها‮" ‬بدعوى مسايرة العصر‮..‬
ليس هناك تكنولوجيا مجردة من‮ "‬قاعدة فلسفية‮" ‬وقيم خاصة متميزة،‮ ‬وليس هناك في‮ ‬البحث والعلوم مناهج لا‮ "‬تستند‮" ‬إلى نظرة خاصة للكون وللإنسان والحياة،‮ ‬وهذه الفلسفة،‮ ‬والقيم،‮ ‬والنظرة الخاصة إذا لم تكن حاضرة في‮ ‬أي‮ ‬مشروع تنموي‮ ‬حضاري‮ ‬فإن مآله الفشل‮.‬
ولعل أحسن مثال‮ ‬يوضح ويؤكد هذه‮ "‬القاعدة‮" ‬هو اليابان‮! ‬إن الخبراء المتتبعين لتطور المجتمع الياباني‮ ‬يؤكدون أن التقدم العلمي‮ ‬التكنولوجي‮ ‬الذي‮ ‬حققه ومكنه من‮ ‬غزو أسواق أوروبا وأمريكا،‮ ‬عزز بالدرجة الأولى ثقة اليابانيين في‮ ‬إنتاجهم الوطني‮ ‬الذي‮ ‬يعتبرونه‮ "‬تعبيرا عن الذات‮" ‬وتحقيقا لتميزها في‮ ‬المجال الاقتصادي‮ ‬المادي،‮ ‬وهذا التمييز اقتضى جملة من الشروط المتكاملة وفّرها اليابانيون،‮ ‬وأول هذه الشروط هي‮ ‬اللغة‮.‬
لقد حافظت وحدة اللغة على الياباني‮ ‬وحصنته من الحملات الإعلامية الغربية المروجة للسلع وللأنماط الاستهلاكية الغربية المتنافية مع النظرة اليابانية والقيم اليابانية والذوق الياباني‮.‬
فمن المعروف أن اللغة اليابانية ظلت لغة الدراسة والتعليم والبحث العلمي‮ ‬في‮ ‬كل المجالات،‮ ‬وقد ساعد على ذلك توسع حركة الترجمة توسعا لم‮ ‬يعرفه أي‮ ‬بلد آخر في‮ ‬العالم‮! ‬إذ أصبح من النادر جدا أن‮ ‬يذكر الإنسان أي‮ ‬كتاب هام في‮ ‬العلم أو في‮ ‬الأدب والفن صدر في‮ ‬أي‮ ‬بلد من البلدان ليست له ترجمة‮ ‬يابانية‮.‬
ويكفي‮ ‬أن نعلم أن الأفلام الأجنبية تعرض في‮ ‬التلفزيون الياباني‮ ‬وهي‮ ‬تنطق بلغة أهل البلد لا بلغة المنتج‮! ‬وهكذا نجا اليابانيون من التأثير الكثيف الذي‮ ‬تتركه وسائل الإعلام الغربية وتكنولوجيا‮ "‬الترفيه والتسلية‮" ‬التي‮ ‬تصحبها في‮ "‬أذواق‮" ‬المستهلكين في‮ ‬شتى أقطار العالم‮.‬
أقول هذا،‮ ‬لأنه إذا كان كل الناس‮ "‬يحلو‮" ‬لهم أن‮ ‬يضربوا المثل باليابان،‮ ‬البلد الذي‮ ‬ثأر لهزيمته العسكرية في‮ ‬التاريخ الحديث بانتصاره على أعداء الأمس تكنولوجيا وحضاريا؛ فليس كل الناس‮ ‬يعلمون أن‮ "‬المعجزة اليابانية‮" ‬لم تتحقق بشراء الآلات أو اقتناء التكنولوجيا أو الاعتماد على استثمارات أجنبية،‮ ‬وإنما تحققت بفضل حسن التركيز على‮ "‬العنصر البشري‮" ‬تعليما وتثقيفا وتوجيها‮..‬
هذا ما‮ ‬يصنعه اليابانيون الذي‮ ‬ينطلقون في‮ ‬كل شيء من‮ "‬الفكر الوضعي‮ ‬للإنسان‮" ‬لأنهم لا‮ ‬يؤمنون بوحي‮ ‬السماء‮! ‬فماذا عنا نحن؟ أين نحن اليوم من هذه‮ "‬الفلسفة‮" ‬والنظرة الشاملة لمفهوم التنمية،‮ ‬نحن الذين نملك بين أيدينا‮ "‬منهاجا ربانيا‮" ‬كاملا شاملا وتراث خير أمة أخرجت للناس؟‮! ‬وما حجم اهتمامنا بالعنصر البشري‮ ‬ومقومات شخصيته من دين ولغة وتاريخ وتراث وعادات وأعراف وتقاليد؟
كيف نطمح إلى التفكير في‮ ‬وضع ملامح لمثل هذه الفلسفة القائمة على التنسيق المحكم بين التربية والتعليم والتوجه الثقافي‮ ‬والإعلامي‮ ‬للمجتمع لإحكام صلة جيلنا الناشئ بقيمه وتراثه ونحن عاجزون حتى عن ضمان‮ "‬دراسة منتظمة‮" ‬لأبنائنا،‮ ‬لا تتخللها‮ "‬هزات‮" ‬وأزمات مزرية التي‮ ‬تعيشها منظومتنا التربوية اليوم والمستوى المحزن الذي‮ ‬بلغناه في‮ ‬الاستهانة بالمعلم والمتعلم على حد سواء‮! ‬الأول بما‮ ‬يعانيه من سوء التقدير والثاني‮ ‬بما‮ ‬يعانيه من ضعف التحصيل‮.‬
كيف نطمح إلى إحكام تلك الصلة و"اللغة‮" ‬نفسها التي‮ ‬هي‮ ‬الوعاء الحاضن لتلك القيم كلها والضامن لحياتها وتواصلها عبر الأجيال تكاد تكون‮ ‬غريبة في‮ ‬دارها وبين أهليها‮.‬
فقد نجح دعاة‮ "‬التغريب‮" ‬من فرض اللغة الفرنسية وتمكينها من بسط نفوذها وامتدادها في‮ ‬مجالات حساسة عديدة،‮ ‬وتجذرها في‮ ‬حياتنا الاجتماعية والثقافية والاعلامية،‮ ‬فأصبحت الجزائر التي‮ ‬لا تدور‮  ‬إلا في‮ ‬فلك هذه اللغة‮ "‬رهينة حضارية‮"‬،‮ ‬تكاد تنقطع صلتها بتراثها الأصيل في‮ ‬بعديه العربي‮ ‬والأمازيغي‮ ‬على حد سواء،‮ ‬الذي‮ ‬صاغته لغة القرآن الكريم التي‮ ‬تبناها الجزائريون لغة العلم والحضارة منذ الفتح الإسلامي‮ ‬الأول‮.‬
ولكن‮.. ‬لماذا نذهب بعيدا في‮ ‬التحليل لنستدل على‮ ‬غربة العربية في‮ ‬دارها وبين أهليها،‮ ‬ونحن نشاهد‮ ‬يوميا مسؤولين في‮ ‬الدولة‮ - ‬رمز السيادة‮- ‬يتباهون بمخاطبة الجزائريين بلغة المستعمر بعد نصف قرن من الاستقلال‮..‬

لــ حمزة بدوغي 

No comments:

Post a Comment