حدثني كل من الأخوين الفاضلين محند أرزقي فراد مباشرة، ومحمد الطيب سي بشير هاتفيا، رواية عن الشيخ علي سي بشير (من أسرة الجنرال سي لحسن العربي)؛ حدثاني أن الإمام عبد الحميد ابن باديس، الذي سماه عبد القادر ابن مقيدش من جيجل "روح الجزائر"، دُعِيَ لزيارة منطقة عين الحمام، في منطقة زواوة، فلبَّى الإمام الدعوة ليتعرف على مصلحيها، تشجيعا لهم، وربطا على قلوبهم مما يكابدونه من الغريب والقريب، ونشرا للدعوة الإصلاحية، و"الإسلام الصحيح"، كما يقول الشيخ المصلح أبو يعلى الزواوي.
حل الإمام ابن باديس في المنطقة، ففرح المصلحون برائدهم، ورحبوا به بما هو به جديرمن الاحترام والتوقير. وما اطمأن بهم المجلس حتى بادر الإمام الجمع بسؤال: كيف الحال؟
بادر أحدهم - واسمه علي الحاج الطاهر - بالإجابة، محاولا أن يبرهن للإمام ابن باديس أنهيحسن اللغة العربية الفصحى، فقال بنبرة مغلفة بروح من التشاؤم واليأس: "لا حياة لمنتنادي يا الشيخ".
انتفض الإمام ابن باديس من تلك الإجابة، كأن عقربا لَسَعَتْه، أو حيّة لَدَغَته، وأراد أنيستأصل تلك الروح اليائسة من القلوب، وأن يقطع ذلك التشاؤم المميت من النفوس، فعقدحاجبيه، وقَطَبَ جبينه، وحدج ذلك الشخص بنظرة حادة، وقال بنبرةٍ تشيع حزماً وعزماً: "بل، هل من منادٍ". وكأنه يقول: ما جئت إلا لأطلق صيحة الحق، التي تدمغ الباطل فإذا هوزاهق، وإذا أصحابه مُدبرون ولو بعد حين.
كان الإمام ابن باديس بتلك السرعة التي رد بها يَوَدُّ أن يطرد اليأس من النفوس، لأنه -رضي الله عنه - يعلم أنه لا طارِد للأمل والرجاء كالقنوط، ولا قاتل لليأس كاليأس، وقد جعلالله - عز وجل - كلاًّ من اليأس والقنوط من صفات الكافرين.
كان الفرنسيون قد شنوا حربا نفسية رهيبة ليشيعوا روح اليأس والقنوط في نفوسالجزائريين، حتى إذا استيأسوا "آمنوا" أن ما هم فيه من استعباد الفرنسيين لهم، وإذْلاَلِهِملهم إنما هو "قضاء وقدر"، وأنه "لا مردّ له"، وزاد من ترسيخ هذه الروح في كثير منالنفوس أصحاب "الفكر الميت" من "علماء" وأشباه علماء أضلهم الله على علم، لأنه لميعلم في قلوبهم خيرا.
بعدما مر على وجود الطاعون الفرنسي في الجزائر 84 سنة، واستيقن الفرنسيون أنالجزائر صارت خالصة لهم من دون أهلها الجزائريين الذين سموهم "أنديجان"، جاءتصيحة ابن باديس وأصحابه توقظ النائمين، وتهز الجامدين، وتنبه الغافلين، وتقلع الخائنين،وتوعِدُ الظالمين، وجعلوا حياتهم "وقفا" على الإسلام والجزائر.
إذا كان الناس في أي مكان في العالم يفرون من حياة البؤس، والمعيشة الضنك، والجهل،والاستعباد... فإن هذه الطائفة من أبناء الجزائر التي نفرت لتلقي العلم في الدول العربيةآثرت أن تعود إلى الجزائر التي كانت "جحيما"، لتؤلف مجموعة أقمار حول بدر التمام ابنباديس، معلنة على لسانه للودود والكنود: "نحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربيةوالقومية بجميع مُدَعِّماتها في هذا الوطن". (الشهاب، أكتوبر 1937، ص355)، لأنهمكانوا مُسْتَيْقِنِين كما أكد الإمام الإبراهيمي "أنه لابد من يوم يأتي نحتل فيه مساجدنا، ونتمتعبحريتنا التامة، فاستعدوا لهذا اليوم". (المصدر نفسه، ص353).
إن هؤلاء العلماء العاملين كانوا يعتبرون أنفسهم "مجاهدين"، وهم يعلمون أنَّ أوجَبَ وآكَدَالواجبات على المجاهد هو أن يبقى مقبلا غير مدبر حتى يأتي أمر الله بالشهادة أو بالنصر،وأن من نكص على عقبيه وقع عليه حكم الله العادل القائل: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُالَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ، وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىفِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ« (الأنفال 15-16)، ولهذا قال الإمامابن باديس لأخيه الإمام الإبراهيمي، ولمن في مقامهما "إن خروجك أو خروجي (أي منالجزائر) يكتبه الله فراراً من الزحف". (آثار الإبراهيمي 4/338). فاسمعوا أيها الصُمُّ،وانظروا أيها العُمْيُ، وانطقوا أيها البُكْمُ.. وافهموا أيها... البشر!
لقد نادى ابن باديس وصحبه في الجزائريين فكتب الله لهم أن يكونوا "هم الذين أيقظواالرأي العام من سُباته"، وكانوا هم "مجددي فكرة الوطن الجزائري" ، وكان "ما قدمهالعلماء لإثارة إحساس الجزائريين بالوعي الديني والقومي يفوق ما قدمه غيرهم"، وأنالجزائريين لم يحيوا إلا بعدما طبقوا وصية إمامهم: "كونوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمةإلا معها"
لــ الهادي الحسني
لــ الهادي الحسني
No comments:
Post a Comment