استوقفتني كلمات "لولفرد هوفمان" سفير ألمانيا السابق في الجزائر، الذي اختار - بعد إسلامه - اسم "مراد هوفمان"، جاءت في معرض حديثه عن "رحلة الإيمان" رحلة الذات التائهة التي خرجت بإذن ربها من الظلمات إلى النور، وعن تجربة الإنسان الغربي الذي أسلم وجهه لله رب العالمين قال "إن الغربيين بحثوا المادة فوجدوا الروح وبحثوا الروح فوجدوا الصدفة ولما بحثوا الصدفة وجدوا الله".
إن القراءة الشاردة لهذه الكلمات قد تعطي انطباعا عاجلا بأنها أقرب إلى "الصور الشعرية"منها إلى شيء آخر، بينما هي"عصارة فكر وخلاصة تجربة" ووصف علمي دقيق للمراحلالكبرى التي قطعها العلم في الغرب ليصل إلى المرحلة التي حطم فيها هذا العلم نفسهأسطورة العلم. نعم... إن العلم التجريبي أصبح يقتفي اليوم آثار الدين بعد أن أكد العلم نفسهأنه لا توجد"معرفة يقينية" إلا في الدين، أما في العلم فإن الشيء"المطلق" الوحيد فيه هو"النسبية".
العلم اليوم هو الذي يستنير بحقائق الدين ويعلن عجزه عن اجتياز "الوصف" إلى"التفسير"، سواء في تعامله مع الإنسان أو مع الكون والطبيعة، لقد صحا العلم عن غرورهوظهرت مؤلفات "علمية" تؤكد هذه الصحوة، وتشير إلى هذا المنعطف الجديد في تاريخالعلم الحديث مثل "موسوعة الجهل" الإنجليزية و"حدود العلم" لسولفيان، كما نجد هذهالحقيقة مبثوثة في الاعترافات الصريحة التي تحتويها مذكرات العلماء الذين "كفروا" فيأخريات أيامهم بالقدرة المطلقة للعلم على تفسير كل شيء وتفطنوا إلى أن العلم لا يزيدعلى"توسيع دائرة السؤال"، وأما الإجابات التي يقدمها في كشف أسرار المادة فإنها لاتتجاوز الوصف إلى الحقائق الكلية، وقد آمن هؤلاء العلماء بأن الدين "حقيقة علمية"بالمفهوم الواسع لكلمة "العلم".
قال "أينشتاين": "إن الشعور الديني الذي يستشعره الباحث في الكون هو أقوى وأنبل حافزعلى البحث العلمي"، وقال وليام جيمس: "إن الذي يدعم شجاعة الباحثين ويقوّيها هو مافي مثلهم وأفكارهم الخلقية من قوة الإيجاب والإلزام، ذلك هو الوصف الحقيقي للروحالعلمي، فهل تختلف في الجوهر عن الروح الديني؟!"
لقد أثارت تلك "الكلمات المكثفة" لمراد هوفمان تساؤلات متداخلة عديدة، وجملة منالخواطر الشاردة التي تجمعت لتشكل كلها صيغة واحدة هي "ألا يكون مثل هذه "الحقائق"تصديقا لنبوءات بعض المفكرين الغربيين الذين عبّروا عن يقينهم بأن "نهاية المطاف"بالنسبة للغرب هو الإسلام" وفي مقدمتهم "برنارشو" الذي قال: إن مشكلات العالمالأوروبي تجد كلها الحل في الإسلام" وكذا "أندري مالرو" الذي قال: إن القرن الواحدوالعشرين سيكون روحيا"؟!
وعن طريق "التداعي" وجدتني أفكر في مردودية الجهود التي يبذلها الدعاة المسلمون فيالأوساط الغربية غير المسلمة الذين يقدمون الإسلام كبديل منقذ للحضارة المادية المعاصرة؟هل "استوعبوا" هذه الحقيقة التي عبر عنها مراد هوفمان ووظفوها توظيفا يؤكد للإنسانالغربي"المثقف العلماني التائه" بأن التمسك بوحي السماء هو "الحق" وأن تطور الحياةوتقدم البشرية من شأنهما أن يصدعا بهذا الحق لا أن يشككا فيه، إن بعض الدعاة لايملكون"الثقافة العصرية" اللازمة و"الحس الحضاري" الذي يجعلهم ينطلقون من داخلالذات الغربية عند دعوتها إلى الإسلام لضمان "اطمئنان صاحبها وانجذابه" لأن المسألةليست مجرد كفاءة علمية بل هي - قبل ذلك وبعد ذلك - تركيبة ذهنية وتكوين ووعي.
يقول وحيد الدين خان في هذا المعنى: "إن الداعية المسلم الذي ينفق طاقته الفكرية فيحشد الأدلة على أن القرآن الكريم لم يكن من الممكن أن يأتي به محمد صلى الله عليه وعلىآله وصحبه وسلم وإنما هو وحي من عند الله سبحانه، فيبدأ بالتأكيد على أنه كان أميا، ثميستعرض بعد ذلك مختلف مناحي الإعجاز في القرآن الكريم، وما إلى ذلك.. هذا الداعية لايملك "تفكيرا عصريا" لأنه يفترض في الإنسان الغربي المخاطب أنه يؤمن "بفكرة النبوةأصلا" ولكن ينكرها على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بينما هوإنسان لا يؤمن بالدين أصلا ولا بالوحي ولا بالأنبياء والرسل، لأن ما لا يخضع للتجربةالعلمية عنده خرافات وأباطيل..
والتفكير العصري يقتضي أن يبرهن هذا الداعية على أن"الوحي ظاهرة ممكنة علميا وأنالدين حقيقة علمية".
إن الإحساس الواعي بهموم الإنسان المخاطب والانطلاق من "داخل ذاته" ومعاناته كإنسانشرط أساسي في دعوة الحيارى والتائهين، وأن ضعف هذا الإحساس هو الذي يفسر قلةتأثير بعض الدعاة بالرغم مما يبذلونه من جهد ويقومون به من نشاط.
إن الإنسان الغربي، المفكر المثقف الواعي بمأساته، وغربته الموحشة مع الذات، والذييردد مع الفيلسوف جان بول سارتر، بكل مرارة، مقولته الشهيرة في التعبير عن قلقهالوجودي المدمر "حريتي هي الأساس لكل أساس دون أساس ولذلك فهي حرية قلقة .."هذا الإنسان لا نتصوره يستجيب لمن يدعوه إلى الإسلام بالموعظة الحسنة القائمة على لغةالترغيب والترهيب، بل لابّد له من لغة خاصة مناسبة لا تراعي فيه مستواه الفكري والثقافيفحسب، بل تراعي كذلك ظمأه الروحي ومعاناته الصادقة ورحلته المضنية داخل الذات بحثاعن المعنى، عن الحقيقة، عن الخلاص، عن "الإسلام".
فطوبى لمن هدى الله بهم من شاء من عباده الضالين الحيارى التائهين.. قال صلى الله عليهوعلى آله وصحبه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمر النعم"، وفيرواية، "خير لك مما طلعت عليه الشمس".
لـــ حمزة بدوغي
لـــ حمزة بدوغي
No comments:
Post a Comment