كان المرحوم الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم معجبا أشد الإعجاب بهذا البيت من الشعر:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
فكان يستحضره دائما ويجيب به كل من "حمّل" زماننا ما نعانيه من تشتت وتخلف وضعف وهوان، ووجد متنفّسا في بيت أبي العلاء المعري الشهير:
كم أردنا ذاك الزمان بمدح فشغلنا بذم هذا الزمان
حضرني هذان البيتان، أو على الأصح هذان الموقفان المتباينان، وأنا أفكر في واقعنا الديني المضطرب وما آلت إليه مرجعيتنا الدينية من اهتزاز، فاستهواني بيت المعري "وهربت" ككل الحالمين إلى ماضي الجزائر الذي نعمت فيه بوحدة دينية مقدسة جامعة طوال قرون من الزمن فلم تضعف ولم تتصدع حتى في أحلك فترات تاريخها؛ كل ذلك بفضل علمائها وأئمتها الذين حافظوا على مرجعيتها الدينية ورسّخوها على مر العصور والأجيال. أولئك العلماء الذين تجاوز صيتهم حدودها فكانوا محل تقدير العلماء المسلمين في المشرق والمغرب على حد سواء، فقد كانوا حجة في الفقه وكانوا على دراية واسعة بالمذاهب الأخرى. وكان في وسعهم دائما أن يأخذوا من هذا المذهب أو ذاك من مذاهب أهل السنة عملا بالاجتهاد الترجيحي الانتقائي متى توافرت شروطه وقويت دواعيه.
الجزائر لم تعرف الجمود والانغلاق والتعصب المذهبي الضيق، فقد ظل المذهب المالكي- ولا يزال- يتعايش تعايشا كاملا مع المذهب الإباضي والمذهب الحنفي من دون أي ضيق أو خرج.
لكن الخوف من امتداد هذا الصراع أصبح له اليوم ما يسوغه بعد أن برزت وانتشرت ظواهر غريبة لم يألفها المجتمع الجزائري من قبل في ممارسة عباداته. ظواهر بدأت تترسخ بفعل التكرار وبفعل الفراغ الذي يغري الجاهلين والمغرضين على حد سواء.
نضيف إلى ذلك عاملا آخر مهما هو أن الجزائري سريع الاستجابة بطبعه لمن يخاطبه باسم دينه وكثير التقدير لمن يعتقد أنهم علماء، ولكن ليس كل الجزائريين قادرين على التمييز بين ما هو من الدين بحسنه وبرهانه وما ليس منه بقبحه وبطلانه.
إن هذه الصفة التي يتميز بها الجزائريون كثيرا ما شجعت "المتفيقهين والمتطفلين" على الإفتاء- كما نعلم جميعا- وعلى اعتلاء منابر الوعظ والإرشاد من دون زاد علمي ولا ورع ديني ويقتحمون ميادين متينة ويوغلون فيها بشدة من دون خشية ولا تهيّب.
ومن هذه الظواهر الخطيرة التي عادت إلى البروز في السنوات الأخيرة اتهام الناس جهرا في عقيدتهم لمجرد اختلافهم معهم في مسائل فقهية فرعية خلافية لا علاقة لها بالعقيدة، وتكفيرهم لهم بسهولة عجيبة، لا يدفعهم إلى ذلك سوى حب الظهور والتفرد، وهم ممن عناهم الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله:
إذا كان يهوى أن يُرى متصدرا وكره "لا أدري" أصيبت مقاتله وعندما تسنح الفرصة "للحديث" مع واحد من هؤلاء فإن الإنسان يعجب لما يلمسه من قلة الزاد وضيق الأفق وقصر النظر وجرأة على الله لا تعرف حدا.
تقول له: اتق الله، فإن تكفير المسلم أمر عظيم يترتب عليه في الإسلام وجوب التفريق بينه وبين زوجته وخروج أولاده عن ولايته، وإذا مات فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويمتنع التوارث بينه وبين أقربائه والحكم عليه بالخلود في النار.. هكذا يقول علماء الإسلام.. فهل تعلم كل هذا وتستحضره عندما تكفرالناس جهرة؟! فهل تقرأ قوله تعالى: "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا"؟ وهل تقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"؟!
تقول له: اتق الله في دين الله وفي عباد الله..
فيقول لك في غرور عجيب: "المؤمن الحق يجهر بالحق ولا يخشى في الله لومة لائم". ألا ما أبعد هذا السلوك عن الإسلام وما أغربه عنه. قال عليه الصلاة والسلام: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل".
لقد وضع سلفنا الصالح مصنفات في التفريق بين الكفر والمعصية، إمعانا منهم في التحذير والاحتياط، عملا بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم جلد في شرب الخمر، وأوتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "لا تلعنوه.. فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله".
سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يشهد لشارب خمر بأنه يحب الله ورسوله.. بل ويقسم على ذلك ولا عجب، فهو إنما بعثه الله هاديا مبشرا ونذيرا ومذكرا ولم يأمره بشق صدور الناس للتنقيب عما في قلوبهم، كما قال هو عن نفسه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بل هو موكل بالظاهر من القول والفعل، وبإقامة حدود الله على القوي والضعيف والغني والفقير على حد سواء، وأما بواطن النفوس وسرائرها فإنه- صلى الله عليه وسلم- خير من يعلم أنها من شأن الخالق وحده سبحانه.
لقد كان علماؤنا وأئمتنا إلى عهد قريب يصرفون طاقتهم كلها في مواجهة "الغزو الثقافي الغربي" متعدد الجبهات والمجالات، وهم مشكورون في كل ذلك ومأجورون إن شاء الله، ففرض عليهم اليوم واقع الجزائر الجديد أن يواجهوا غزوا آخر لعله أشد خطرا هو "الغزو الديني"..
لــ حمزة بدوغي
لــ حمزة بدوغي
No comments:
Post a Comment