لن تفهم كثيرا من أحراز السياسة، أو تفك طلاسم العلاقات بين الدول والنخب الحاكمة، ما لم تلتفت إلى صفحات تاريخ الدول، الذي كان في الغالب تاريخ صراع النخب على السلطة ومتاع الدنيا في الداخل، وصراعها لتوسيع الفضاء الحيوي من حولها، على حساب الدول والشعوب الجارة، سوف نضرب لها أمثلة استدلالية من منطقتنا الموبوءة بالحروب، لها أكثر من نظير في بقية مناطق المعمورة.
قد تظن أن التنافس التركي الفارسي على اقتطاع فضاءات نفوذ في بلاد الرافدين، والشام،وجزيرة العرب، هو أمرٌ طارئ على المنطقة، أو يعود فقط إلى حقبة التنافس والخصوماتبين الدولة الصفوية ودولة الباب العالي لأكثر من قرنين على قيادة العالم الإسلامي، والتحكّمفي قلبه العربي، فتحيله بشيء من الابتذال والتسرع إلى التنافس المذهبي الشيعي السني،والحقيقة خلاف ذلك، لأنه متصل بخصومات سابقة لوصول الإسلام إلى جيراننا الأعاجم. وقدأرّخ له بعضهم منذ أواسط القرن السادس قبل الميلاد، مع نشأة الدولة الفارسية "الأخمينية"الأولى على يد "خورش الكبير" والتي وسعها "خشا _ارشا" //////////// ووطدها"داريوس" لتصل حدود ليبيا غربا، فلم ينج من سلوكها التوسعي لا أهل الأناضول، ولا بلادالرافدين، ولا حتى ملوك مصر، فيما كان لعظيمها ومؤسسها "خورش الكبير" حنوّا لا حدودله على بني إسرائيل، فقد حررهم من البابليين، وأعاد لهم بناء الهيكل؟
قد يبدو لك أن قصة "داعش" والنصرة، وإقامة إمارة بين الموصل وحلب أمرا مستحدثا،ليس له جذور في التاريخ، وأنه فقط صناعة أمريكية لإشغال عرب العراق والشام، ذلك لأنكلم تلتفت إلى صورة لها طبق الأصل، حصلت زمن تنافس البويهيين الشيعة، والسلاجقة علىافتراس بقايا الخلافة العباسية، قبل وبعد مرور جحافل المغول والتتار، فيما كانت بيزنطةتتوثب شمالا لاستعادة الشام، وتدشين الحروب الصليبية الأولى. في غضون ذلك انتزعالحمدانيون العرب مدينة حلب من الإخشيديين (وهم سلالة تركية مستعربة حكمت الشامومصر) وأسسوا دولة عربية كانت تقاتل زمن سيف الدولة على أكثر من جبهة: حروب ضدالبويهيين والسلاجقة، وحروب مع الروم، وقد جمعوا تحت إمارتهم معظم حواضر الفراتوحواشي حلب، كما تفعل اليوم "دولة" أبي بكر البغدادي.
وكما ترى، كان الثلاثي المرج نفسه حاضرا، محيطا- متحالفا حتى وهو في خصومة بينية-بإمارة الموصل وحلب الحمدانية: بويهيون من فرس، أو من الديلم عند بعضهم، وسلاجقةمن أجداد أردوغان، وبيزنطة التي سوف تنقل بعد ألف عام لواء الحرب الصليبية إلى بوشالابن وإلى من خلفه.
جزيرة العرب كانت قبل الإسلام تتحصّن بطبيعتها الموحشة، وبتعفف أهلها عن ترف المدنيةالموهن، فلم يساومها في أمنها سوى جيرانها الفرس حتى يوم "ذي قار" حين ألحق العربأول هزيمة بالفرس سنة 609 م، أي 27 سنة قبل هزيمتهم الكبرى في القادسية زمنالخليفة عمر. ولا شك أن أغلب أهل فارس قد أسلموا وحسُن إسلامهم، وتفتقت عبقريتهم فيظل الإسلام، فأثروا حضارته، لكن نخبهم السياسية التي حكمت بلاد فارس، ثم كثيرا من بلادالعرب والمسلمين، لم يكن لهم ذكرٌ في توسعة الفتوحات الإسلامية، على خلاف العربوالأتراك وكثير من مسلمي شعوب آسيا الوسطى، بسبب انخراطهم في كثير من الفتن التيداهمت المسلمين منذ واقعة كربلاء المنكَرة.
منذ أسابيع، كان أحد كبار الدولة الإيرانية يتفاخر باقتناص إيران لرابع عاصمة عربية بعدسقوط صنعاء بيد الحوثيين، ولم تكن هذه بدعة أو فلتة، كما ليس بالبدعة ما تسوقه النخبالإيرانية ومواليها من المستعربة عن حق إيران في الانتصار لقوى المقاومة المعاديةللشيطان الأكبر وذريته. فقد برروا من قبل انتصارهم للعباسيين ضد الأمويين بحجة نصرةالمستضعفين وحق آل البيت، وكانوا خلف ومع معظم الفتن التي استهدفت الدولة الإسلاميةالعربية في زمن الأمويين، ثم في عهد العباسيين، من ثورة الزنج التي قادها فارسيٌ من أهلالري يُدعى بهبوذ، إلى فتنة القرامطة الإسماعيلية الشيعة نتيجة انقسام الشيعة بعد وفاةالإمام جعفر الصادق، ولأن الإسماعلية، مثل الزيدية، مثل الكيسانية، كانت ستفسد على"الفرس" قولهم بالشراكة مناصفة في أبوّة ثمانية من بين الأئمة الاثني عشر، بحكم أنالإمام الرابع علي زين العابدين بن الحسين عليهما السلام، والناجي الوحيد من واقعةكربلاء، ولد للحسين عليه السلام من ابنة لكسرى سُبيت، فوهبها له الخليفة عمر رضي اللهعنه، فكان كبار مشايخ المذهب الجعفري يفاخرون بالقول: أئمتنا أبناء الأخيرين: هاشموفارس.
انتقيت بعض الشذرات من تاريخ هذه المنطقة الموبوءة اليوم بالفتن، ليس من باب التهييجالمذهبي الطائفي أو القومي، أو التهجّم على هذا أو ذاك من المذاهب الفقهية التي يرجعإليها المسلمون، بل لكي ألفت نظر القارئ المهتم بقراءة الأحداث إلى أمور ثلاثة تساعدهعلى قراءتها من أكثر من زاوية:
الأول: أن كثيرا من التعصب الذي نراه اليوم يتسلل إلى سياسات وخيارات وخطاب النخبالحاكمة، ليس في الأصل تعصبا دينيا: طائفيا، أو مذهبيا، حتى حين يقتبس من مدوّنةالخطاب الطائفي، بقدر ما هو من مخلفات التعصب العرقي القومي، المتوارث كابرا عن كابرفي المخيلة الجمعية للنخب تحديدا.
الثاني: أن التعصب الديني المذهبي هو سلعة تصنعها الخاصة للعامة، توظف كمهماز لحملالدهماء على السير إلى حتفها بظلفها والقتال بالوكالة بدل العليّة.
الثالث: أن أكثر من دولة مذهبية حكمت من قبل جغرافية أوسع بكثير مما قد سقط حتى الآنتحت نفوذ دولة الولي الفقيه، قبل أن تُقبر، بدءا بالدولة الفاطمية التي امتدت من المغربحتى الشام، وانتهاء بالصفوية التي حكمت من أفغانستان وباكستان حتى شرق الجزيرةالعربية، وقد استباح القرامطة الإسماعيلية الحرم المكي، وسلبوا الحجر الأسود لأكثر من23 سنة، فهل تسمع لهم اليوم ركزا؟
لــ حبيب راشدين
لــ حبيب راشدين
No comments:
Post a Comment