يقول العالم تيودور شولز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: "لا ثروة إلا ثروة الرجال" والقصد أن الإنسان هو دائما الأساس في كل تنمية؛ والمسألة الجوهرية تتمثل في "إنعاش التفكير التنموي" لحل المشكلات التي تعوق حركة التنمية وعلى رأس هذه المشكلات الوعي بقيمة الوقت وقيمة العمل..
هذه الحقيقة الناصعة لا تكاد تخطر ببال "المنظرين والمخططين" عندنا لتحقيق "التنمية الشاملة"؛ وهي أن القيم، أي الإنسان، هي التي تضمن للتنمية القدرة الذاتية على الحركة المنتجة والاستمرار فيها، عندما تتأجج هذه القيم فعلا في ضمير هذا الإنسان.
وهذا معناه إحكام الصلة بين "التربية والتنمية" ثم بين التنمية والتوجه الثقافي والإعلامي العام للمجتمع.
ولننظر إلى واقعنا من هذه الزاوية ولنبحث عن أي لون من ألوان الصلة بين الانسان المدعو إلى تحقيق هذه التنمية وبين "مضامين" التوجه الثقافي والإعلامي العام، ونوع القيم التي تعمل من أجل إرساخها ونشرها وتعميقها؟ هل هناك تصور واضح لصلة من الصلات آصلا؟
إن المفكرين "المنظرين" في البلاد المتقدمة، عندما يؤكدون اليوم أن أساس أي مشروع أو مخطط إنما هو الإنسان فإنهم يعنون بذلك القيم الحضارية الأصيلة لهذا الإنسان وتراثه الفكري والروحي، من لغة وتقاليد وأعراف؛ بمعنى أن السر هو في حسن "توظيف" هذه القيم لتحقيق التنمية والتقدم وليس في "تكييفها وتمييعها" بدعوى مسايرة العصر..
ليس هناك تكنولوجيا مجردة من "قاعدة فلسفية" وقيم خاصة متميزة، وليس هناك في البحث والعلوم مناهج لا "تستند" إلى نظرة خاصة للكون وللإنسان والحياة، وهذه الفلسفة، والقيم، والنظرة الخاصة إذا لم تكن حاضرة في أي مشروع تنموي حضاري فإن مآله الفشل.
ولعل أحسن مثال يوضح ويؤكد هذه "القاعدة" هو اليابان! إن الخبراء المتتبعين لتطور المجتمع الياباني يؤكدون أن التقدم العلمي التكنولوجي الذي حققه ومكنه من غزو أسواق أوروبا وأمريكا، عزز بالدرجة الأولى ثقة اليابانيين في إنتاجهم الوطني الذي يعتبرونه "تعبيرا عن الذات" وتحقيقا لتميزها في المجال الاقتصادي المادي، وهذا التمييز اقتضى جملة من الشروط المتكاملة وفّرها اليابانيون، وأول هذه الشروط هي اللغة.
لقد حافظت وحدة اللغة على الياباني وحصنته من الحملات الإعلامية الغربية المروجة للسلع وللأنماط الاستهلاكية الغربية المتنافية مع النظرة اليابانية والقيم اليابانية والذوق الياباني.
فمن المعروف أن اللغة اليابانية ظلت لغة الدراسة والتعليم والبحث العلمي في كل المجالات، وقد ساعد على ذلك توسع حركة الترجمة توسعا لم يعرفه أي بلد آخر في العالم! إذ أصبح من النادر جدا أن يذكر الإنسان أي كتاب هام في العلم أو في الأدب والفن صدر في أي بلد من البلدان ليست له ترجمة يابانية.
ويكفي أن نعلم أن الأفلام الأجنبية تعرض في التلفزيون الياباني وهي تنطق بلغة أهل البلد لا بلغة المنتج! وهكذا نجا اليابانيون من التأثير الكثيف الذي تتركه وسائل الإعلام الغربية وتكنولوجيا "الترفيه والتسلية" التي تصحبها في "أذواق" المستهلكين في شتى أقطار العالم.
أقول هذا، لأنه إذا كان كل الناس "يحلو" لهم أن يضربوا المثل باليابان، البلد الذي ثأر لهزيمته العسكرية في التاريخ الحديث بانتصاره على أعداء الأمس تكنولوجيا وحضاريا؛ فليس كل الناس يعلمون أن "المعجزة اليابانية" لم تتحقق بشراء الآلات أو اقتناء التكنولوجيا أو الاعتماد على استثمارات أجنبية، وإنما تحققت بفضل حسن التركيز على "العنصر البشري" تعليما وتثقيفا وتوجيها..
هذا ما يصنعه اليابانيون الذي ينطلقون في كل شيء من "الفكر الوضعي للإنسان" لأنهم لا يؤمنون بوحي السماء! فماذا عنا نحن؟ أين نحن اليوم من هذه "الفلسفة" والنظرة الشاملة لمفهوم التنمية، نحن الذين نملك بين أيدينا "منهاجا ربانيا" كاملا شاملا وتراث خير أمة أخرجت للناس؟! وما حجم اهتمامنا بالعنصر البشري ومقومات شخصيته من دين ولغة وتاريخ وتراث وعادات وأعراف وتقاليد؟
كيف نطمح إلى التفكير في وضع ملامح لمثل هذه الفلسفة القائمة على التنسيق المحكم بين التربية والتعليم والتوجه الثقافي والإعلامي للمجتمع لإحكام صلة جيلنا الناشئ بقيمه وتراثه ونحن عاجزون حتى عن ضمان "دراسة منتظمة" لأبنائنا، لا تتخللها "هزات" وأزمات مزرية التي تعيشها منظومتنا التربوية اليوم والمستوى المحزن الذي بلغناه في الاستهانة بالمعلم والمتعلم على حد سواء! الأول بما يعانيه من سوء التقدير والثاني بما يعانيه من ضعف التحصيل.
كيف نطمح إلى إحكام تلك الصلة و"اللغة" نفسها التي هي الوعاء الحاضن لتلك القيم كلها والضامن لحياتها وتواصلها عبر الأجيال تكاد تكون غريبة في دارها وبين أهليها.
فقد نجح دعاة "التغريب" من فرض اللغة الفرنسية وتمكينها من بسط نفوذها وامتدادها في مجالات حساسة عديدة، وتجذرها في حياتنا الاجتماعية والثقافية والاعلامية، فأصبحت الجزائر التي لا تدور إلا في فلك هذه اللغة "رهينة حضارية"، تكاد تنقطع صلتها بتراثها الأصيل في بعديه العربي والأمازيغي على حد سواء، الذي صاغته لغة القرآن الكريم التي تبناها الجزائريون لغة العلم والحضارة منذ الفتح الإسلامي الأول.
ولكن.. لماذا نذهب بعيدا في التحليل لنستدل على غربة العربية في دارها وبين أهليها، ونحن نشاهد يوميا مسؤولين في الدولة - رمز السيادة- يتباهون بمخاطبة الجزائريين بلغة المستعمر بعد نصف قرن من الاستقلال..
لــ حمزة بدوغي
لــ حمزة بدوغي
No comments:
Post a Comment