كان الدافع إلى كتابة هذه الأسطر وقوفي على "نصيحة" لأحد الباحثين المختصين في التراث الروحي الإسلامي، قدمها بصفة خاصة للشباب الذين يستهويهم الاطلاع على جوانب من هذا التراث الغني، يقول فيها:"إن دراسة سير الصالحين من الزهاد والمتصوفة أنفع لهم من محاولة التعميق في مذاهبهم وآرائهم ونتاجهم".
إن هذه النصيحة تبدو للنظرة العجلى المتسرعة في الحكم "غريبة"، لكن الذي يتأملها بدقةوعمق فإنه يجدها منطوية على قدر كبير من الصحة،
إنها نصيحة حكيمة حقا، لماذا؟! لأن السيرة معناها السلوك، وتقييم السلوك أسهل من تقييم"التجربة نفسها" بمعنى أن مقياس تقييم سلوك هذا الزاهد أو ذاك واضح وعملي وبسيط،فهو محكوم عليه بالاستقامة أو الانحراف بمقدار تمسكه بكتاب الله سبحانه وبسنة رسول اللهصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أو إعراضه ومخالفته لهما..
فإذا كان هذا الزاهد أو المتصوف مقتديا حقا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبهفإن ذلك سيظهر حتما في أقواله وأفعاله، وفي هذه الحال يكون ما يجريه الله سبحانه علىيديه من كرامات وعلى لسانه من إشارات ذوقية وإلهامات زادا غنيا للتوّاقين إلى بلوغدرجة "الإحسان" بتزكية النفس والتقرب إلى الله سبحانه بالنوافل، كما جاء في الحديثالقدسي "...وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه"
وأما التصوف نفسه فإنه "تجربة روحية" شديدة الذاتية والتميز، ولذلك كان من خصائصهاالتعبيرية الأولى"الإغراق في الرمز والتمرد على اللغة"، مما جعل الأبحاث والدراسات التيتناولتها تتسم هي أيضا بقدر كبير من هذه الذاتية، فكان من النادر أن يتحرر منها الباحثنفسه، وهو يحاول "ضبط" مجال من مجالاتها، بل إن من الباحثين المختصين من وقفواحياتهم على دراسة هذه التجربة، ومع ذلك فإنهم لم يكونوا يصلون إلى"حكم" تطمئن إليهنفوسهم إلا وراجعوه ليعدّلوا منه أو ليعدلوا عنه إلى غيره.
إن هذا العالم الرحيب المهيب، إذ طرق بابه من لا يملك"مفاتيحه" ولم يتزود بالاطلاع الكافي على خصائص تعبيره، فإنه قد يتهم بعض من قال في حقهم الله سبحانه "من آذى ليوليا فقد آذنته بالحرب"عندما يسيء فهم أثر من آثارهم.
التراث الروحي الإسلامي عموما قسمان: قسم صحيح غطاه الإعراض والنسيان وقسم سقيمغذاه الجهل والتخلف، فالذي يريد الاتصال بالجانب "الصحي" المشرف من هذا التراث يجدأمامه حجابا سميكا من"تراكم" اجتهادات القرون الضعيفة، ويرى كثير من الباحثينالمتخصصين في هذا المجال أن سبب ذلك كله يعود إلى ابتعاد المنظّرين عن النهج القرآنيوإلى تأثرهم بفلسفات الأمم الأخرى وعقائدها.
إن الحقيقة الإنسانية قد بينها القرآن الكريم بشقيها المتوازيين المتكاملين اللذين فصل القولفيهما في آيات كثيرة، فهو - من جهة - يقرر الأصل الترابي للإنسان ويذكره بأنه كائنضعيف خلق من ماء مهين، وأنه مهما يغتر ويترفع فإنه لا يستطيع أن يتحرر من طبيعتهالآدمية!
"قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره"
وهو - من جهة ثانية يقرر الجانب النوراني فيه، الذي استحق بفضله سجود الملائكة له،"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، إن تكامل هذين العنصرين هو الذي يحقق الاعتدالالمقصود بقوله تعالى"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"..
هذا المبدأ العظيم الذي يقيم عليه الإسلام أساس الاستقامة في كل شيء بدءا بالعقيدة نفسها،فكما أن"الإيمان الفكري" وحده لا يكفي، فكذلك"العاطفة الجياشة" وحدها قد تبعد صاحبهاعن هذا المبدأ إذا جانبها الفكر الراشد! وهل الحقيقة الإنسانية إلا المزج السليم والمعتدل بينالعقل والقلب؟!
إن هذا التكامل إذا جئنا نبحث عنه في واقع المجتمعات الإسلامية، وهي تتطور مع التاريخفإننا نجد أنه لم يتحقق في أكمل صورة، إلا زمن الرسول صلى الله وعلى آله وصحبه وسلموعهد الصحابة والتابعين، لماذا؟! لأن تلك الفترة انطبعت - في غير ما غموض أو تعقيد -بطابع السنة النبوية الشريفة، فكانت غاية العبادة فيها أن ينشد المؤمن مرضاة الله سبحانهطمعا في جنته وخوفا من ناره، كما كان الفقه في الدين سبيلا إلى العمل الصالح وضمانالإتقانه، فكان الصحابة رضي الله عنهم ينفرون من الجدل واشتقاق الكلام واصطناع المسائلفي الدين من غير طائل، لأنهم كانوا ينفرون من كل ما يشغلهم عن السعي والحركة والعملالصالح الدؤوب! قدوتهم في ذلك كله أعرفهم بالله سبحانه وأكرمهم وأتقاهم وأشد حرصاعلى ذكره وشكره وحسن عبادته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ولقد جسدوا في واقعحياتهم مضمون قوله: "خلقت الدنيا لكم وإنكم خلقتم للآخرة"
هذا المنهج "العملي" السليم للحياة الروحية سيعرف تطورا كبيرا يكتنفه غموض وتعقيد معتطور الحياة وتعقدها، ومع ما ستشهد الأمة الإسلامية من انقسامات حادة وما يتبعها منألوان الترف وألوان الحيف والغبن في آن واحد...وسيكون ذلك كله دافعا قويا للرجوع إلىالذات والانطواء عليها، فيروّج التصوف ويرتاد آفاقا لم يألفها الناس من قبل عندما يصبحدراسة لأسرار البواطن والقلوب، ونشدان الحقيقة عن طريق المكاشفة والذوق والإلهام..
إن هذه "الذاتية" وما سيفرزه "استبطانها" من مصطلحات خاصة بالتعبير عنها هي التيساعدت على رواج فهوم ضعيفة وأحكام خاطئة، لعل أخطرها تلك التي تنفي - عن جهل أوقصد - أي فضل يذكر للطرق الصوفية في حياة المجتمع وفي تطوره، بل إن هذه الأحكامالخاطئة المطلقة لا ترى في الطرق الصوفية إلا سببا من أسباب الجمود والتخلف والابتداعفي الدين، ولا يخفى ما في هذه الأحكام من جناية على الحقيقة وعلى التاريخ، لأن ذلك معناهتجاهل نفوذ الشخصيات الروحية الأصلية ووزنها في مجال الجهاد والإصلاح، وكذلك تجاهللفضل الطرق الصوفية في نشر الإسلام والحفاظ على كتاب الله وسنة رسول الله صلى اللهعليه وسلم، ومواجهة سلطان المادية الطاغية وتزكية النفس ومقاومة المعتدين.
ولا ينقص من هذه الحقيقة شيئا، كون بعض الطرق الصوفية المبتدعة المنحرفة لم تؤدرسالة مشرفة في حياة الأمة الإسلامية، لأنها قامت أصلا على الدجل والشعوذة والاستغلالوالابتداع المنكر في الدين!
ولكن نتحدث عن الطرق التي يمثلها العلماء الربانيون الذين قال الله سبحانه في حقهم "ألاإن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون".
لــ حمزة بدوغي
لــ حمزة بدوغي
No comments:
Post a Comment