دعنا الآن نعود إلى صفات وسمات المجلات المشبوهة التي أصبح النشر فيها موضة وسمة شبه عامة وسط الأساتذة الجامعيين الجزائريين.
في الحقيقة، وضعُ تصنيف معياري واضح لهذه المجلات أصبح اليوم
صعبا؛ نظرا إلى أن الأمر أصبح أكثر احترافية واستطاعت العديد من هذه
المجلات اختراق جميع القواعد، ولكن هناك مؤشرات واضحة تدل، بما لا
يدع مجالا للشك، أن هذه المجلة أو تلك تدخل في دائرة الشبهة، وربما
الدعارة العلمية، ويجب ألا يُعتدّ بما يُنشر فيها. وسأحاول إعطاء
أهمّ المؤشرات التي لا أعتقد أن شخصا مُنصفا يستطيع نكران جدية هذه
المعايير لتحديد مدى جودة المجلات العلمية:
1. الأغلبية الساحقة من المجلات التي تطلب أجرا من المؤلف لقاء نشر
أبحاثه هي مجلاتٌ مشبوهة، إذ إن الاستثناءات في بعض التخصصات قليلة
جدا ومعروفة، وهي تعمل بهذا النظام منذ عقود وقبل بروز ظاهرة النشر
مقابل الدفع.
2. هناك شيءٌ ملحوظ وهو أن كل مجلة تكاد تُصنّف نفسها بنفسها:
فإذا رأيت أن أغلب من ينشرون في المجلة هم من دول العالم الثالث
(الصين، الهند، السعودية، مصر، إندونيسيا، دول أوربا الشرقية،
الجزائر، تونس، إلخ...) فاعلم أن المجلة تندرج ضمن شبكة الرداءة
العلمية، لأنه لا يُعقل ألا يجتمع في هذه المجلة إلا باحثون من دول
ترزح في التخلف أو منتشرة فيها الرداءة وغياب الصرامة والتقاليد
العلمية.
إذا رأيت أن أغلب من ينشرون في المجلة هم
من دول العالم الثالث (الصين، الهند، السعودية، مصر، إندونيسيا،
دول أوربا الشرقية، الجزائر، تونس، إلخ...) فاعلم أن المجلة
تندرج ضمن شبكة الرداءة العلمية.
قد يقول قائلٌ هنا إن الصين أو الهند لديهما علماء كثر ومراكز
علمية جادة ومرموقة. بالفعل، هذا صحيح، ولكن الطبقة العلمية الجادة
في الهند والصين تنشر في مجلات علمية مرموقة ومحترمة.. والهند والصين
ـ بحكم عددهم الكبير ـ فإن سكانهما مِلل ونِحل كبيرة، ومسألة الغش
والرداءة العلمية متفشّية في مؤسساتهما العلمية، مثل منتجاتهما
الصناعية. لهذا، فإنه ليس من المعقول أن نصنف مجلة علمية بأنها جادة
ومحترمة، بينما لا نجد أساتذة وباحثين من معاهد علمية جادة ومرموقة
ينشرون فيها، فهذه المجلات تخلو تماما من أي اسم من معاهد ومراكز
علمية معروفة، حتى وإن وُجد باحث من دولة غربية متقدمة، فإنه يكون
من جامعة نكِرة؛ فهناك جامعاتٌ في أمريكا ودول غربية مستواها
متدنٍّ.
المشكل اليوم أن الأمر تعقّد وأصبح أكثر احترافية كما أسلفنا، إذ
استطاعت الكثير من هذه المجلات، إما اختراق شروط أو شراء قواعد بيانات
"تومسون ـ رويترز" و"سكوبيس" وغيرها من التصنيفات التي أصبح الكثير
يتغنون بها اليوم ويعتبرونها معيارا كافيا، بينما الحقيقة أن المسألة
كلها أقرب إلى التجارة وتسويق الوهم إلى دول العالم الثالث، فالأمر أصبح
يدرّ أموالا رهيبة، وحتى "تومسون ـ رويترز" متورطة ماديا في
هذه القضايا فهي ليست جمعية خيرية.
ثمة أمثلة عديدة عن هذه المجلات، ولقد كنتُ شاهدا على عدد من حالات
الترقية والحصول على الدكتوراه بواسطة هذه المجلات، وآخرها كانت لمجلة
في الكيمياء مصنّفة ضمن قاعدة "سكوبيس" ومجانية، ولها نسخة
إلكترونية (وقيل مطبوعة أيضا) تصدر في رومانيا. عندما نلقي نظرة
على أسماء من ينشرون فيها، نجدهم من نفس المجموعة ومن الدول التي
أشرنا إليها، بل إن أحد الباحثين نشر في عدد واحد خمسة مقالات،
بينما نشر في باقي الأعداد من مقال إلى ثلاثة مقالات... وكأن الرجل
يُعِدّ عجة بيض أو "فريت أومليت" وليس بحوثا علمية!
يمكن أيضا الإشارة إلى أحد مشاريع البحث الوطنية التي تُعرف بـPNR
، كان حصيلته مقالة واحدة في الرياضيات نُشرت في مجلة لا تختلف
كثيرا عن مجلة الكيمياء التي أشرنا إليها سابقا.. بينما تحصّل
الأساتذة، أعضاء فريق البحث هذا، على نصف مليار سنتيم دعما (مكافئات
وتمويل)!
والأمر يصبح أكثر مأساوية إذا ما تذكّرنا أن كل ما هو مطلوب لمناقشة
الدكتوراه في الجزائر هو نشر مقالة علمية واحدة، وللتأهيل الجامعي
مقالة واحدة أيضا (ربما ستلغى هذه الشروط أصلا!). ولهذا، إذا عجز
الأستاذ الباحث تماما عن نشر مقالة واحدة في مجلة محترمة ولم يجد إلا
المجلات المشبوهة فهذه كارثة حقيقية. والأجدر بهذا الباحث أن يبحث عن
الخلل، ويبذل جهدا حتى ينشر في مجلة محترمة ولا يستسلم للرداءة
العلمية.
إذا عجز الأستاذ الباحث تماما عن نشر مقالة
واحدة في مجلة محترمة ولم يجد إلا المجلات المشبوهة فهذه كارثة
حقيقية. والأجدر بهذا الباحث أن يبحث عن الخلل، ويبذل جهدا حتى
ينشر في مجلة محترمة ولا يستسلم للرداءة العلمية.
في الأخير، نشير إلى أنه قبل الحديث عن أستاذ باحث أو باحث علمي
جيد، لا بد من توفر شرط ضروري وليس كافيا، وهو أن يكون الأستاذ
متمكنا من مادته العلمية الأساسية، فلا يُعقل لا منطقا ولا علما أن
يكون لدينا باحثٌ جيد، وهو يفتقد للتكوين العلمي الجيد، ويعجز
حتى عن تقديم محاضراته بشكل سليم، ولا يلمّ بأساسيات تخصصه. وعندما
نقول أساسيات تخصصه، فنحن نتكلم مثلا عن أساسيات الفيزياء (في مستوى
الليسانس والماستر) أو الرياضيات أو الكيمياء، إلخ. بطبيعة الحال،
فنحن لا نركز هنا على الناحية البيداغوجية رغم أهميتها، بل نركز على
الإلمام بالأساسيات قبل الحديث عن الإبداع.
إن التعليم والجامعات الجزائرية اليوم يمرّان بأسوإ أيامهما، إذ
تفشت الرداءة العلمية، وضحاياها كثر... منهم المغرر بهم، خاصة طلبة
الدكتوراه الذين أصبح كثيرٌ منهم يعتقد أن هذا هو البحث العلمي،
ومنهم صنّاع الرداءة والمشاركون فيها، وهؤلاء اليوم يوهمون الناس
والأساتذة بأنهم "باحثون" ويحصون مقالاتهم التي لا وجود لها إلا في
مجلات لا تستحق حتى ثمن الورق الذي تطبع به.
البحث العلمي للأستاذ الجامعي هو دليل حياته المهنية، ولكن الأفضل
منطقا وخلقا وشرعا وعلما أن يكفّ الأستاذ عن النشر بدل النشر في هذه
المجلات سيئة السمعة التي تؤسس للرداءة العلمية. وعلى الإنسان ألا
يعتقد أنه بإمكانه خِداع الناس، فكما يقول المثل: "يمكن أن تخدع كل
الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع خِداع كل الناس
كل الوقت"، أو كما يقول الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس، تُعلم
No comments:
Post a Comment