لم تشهد الجزائر حراكا افتراضيا وإعلاميا منذ سنوات عديدة، مثلما تشهده
اليوم حول موضوع تدريس العامية، والذي أعاد الصراع القديم الجديد أو
"الكلاسيكو" بين العربية والفرنسية، ولكن هذه المرة دخل لاعب ثالث هو
الانجليزية، وربما لاعب إضافي وإن كان على استحياء هو الأمازيغية.
طبعا هذه الأحداث تجعل الذاكرة تعود بسرعة، وتستحضر تلك الصائفة التي
تم فيها تسريب أسئلة البكالوريا، وأقيل أو استقال على إثرها الوزير
السابق علي بن محمد الذي تجرأ واقترب من المنطقة المحظورة واللغة المحظوظة في الجزائر وحاول أن يجعل لها ضرة.
لست هنا لأدافع عن اللغة العربية، فلقد تصدى آخرون لهذا الموضوع ممن
هم أجدر بذلك وأقدر، حتى وإن كنت أرى أن السِّمة الغالبة في وسائل
الدفاع هو منطلق الهوية، كما أن عبثية الطرح وضعف حجة أنصار العامية جعل
عملية الرد عليهم سهلة وحوّلتهم إلى محل سخرية، وهذا لا ينفي أن
أصحاب قرار تدريس العامية لا يدركون هذه الحجج أو غائبة عن أذهانهم،
بل المتأمل لحالة الاستقطاب التي شاهدتها الساحة الإعلامية في الجزائر
وحالة التخندق لا يصعب عليه معرفة الدوافع المختلفة لتأييد قرار
تدريس العامية أو لغة الشارع.
إنما دفعني للكتابة في موضوع بن غبريط وقراراتها "الجريئة"
الخطأ الجسيم الذي يرتكبه أغلب من ناصبوا قرارات بن غبريط العداء،
حيث اختصروا أزمة التعليم وسبب انتفاضتهم في مسألة اللغة، وهذا لعمري
سطحية ما بعدها سطحية وتضييع للجهود ولفرصة طرح أزمة التعليم بعمق أمام
الشعب وبشكل علمي بعيد عن الشعباوية والشيفونية والحسابات الإيديولوجية
الضيقة التي يريدنا البعض أن نغرق فيها، فبدل الولوج في أزمة التعليم
بكل مستوياته من الابتدائي إلى الجامعي انقسم معارضو بن غبريط إلى
فئتين تقريبا: ففئة تحركها الخوف على الهوية والعربية والإسلام، وهم لا
شك محقّون في ذلك لأن ما يُدبَّر في السر والعلن لم تعد تخطيء
الأعين في دوافعه وأهدافه، أما الفئة الثانية فذهبت تحاول تقديم
الانجليزية كبديل للفرنسية، وإن كان الأغلب مزج بين الدفاع عن الهوية
والانجليزية كلغة ثانية.
لن أتعرض لصراع الهوية الذي أعتقد أنه مليء بالأشواك ومفخخ، ولكن
ما يعنيني هنا هو هذا المطلب الذي أصبح يلقى رواجا كبيرا، ويحظى
بتأييد كاسح حسب جميع استطلاعات الرأي الإلكترونية، وهو استبدال
الفرنسية بالانجليزية كلغة ثانية.
المنطلق الرئيس الذي أسس عليه من يطالبون أن تكون الانجليزية لغة
ثانية بدل الفرنسية هو أن الانجليزية هي لغة التواصل العلمي
والتكنولوجي، بينما تكاد تنحصر الفرنسية في فرنسا وبعض مستعمراتها
الإفريقية السابقة التي ترزح تحت وطأة تخلف لا يختلف عن تخلفنا أو
يزيد، وهذه الحجة لا يستطيع أنصار الفرنسية في الجزائر (مناصرو
بن غبريط) أن يردوها حتى يلج الجمل من سم الخياط، ولكن هذا الطرح
اللغوي البديل يخفي وراءه كثيرا من السطحية وعدم الإدراك لخطورة
الوضع في التعليم وعمق الأزمة وتجذرها وتشابكها، فعندما نسمع شخصية
إعلامية مرموقة تقول لا بأس أن نرمي العربية والفرنسية في البحر،
المهم أن يتعلم أبناؤنا الانجليزية، يخيَل للمتلقي والشباب اليوم أن
الانجليزية هي خاتم سليمان والمفتاح السحري للنهضة وإخراج منظومتنا
التربوية والتعليمة والبحثية من براثن الرداءة والانهيار، في حين لو
فكر هؤلاء قليلا لأدركوا بُعدهم التام عن الصواب والواقع والطرح العلمي،
فلو كان الحل يكمن في استبدال لغة بلغة لكانت شعوب ودول أخرى في
مصاف الدول المتقدمة، فتلاميذ تلك الدول يتعلمون الانجليزية من أول
يوم دراسة، بل هناك دول يكاد شعبها كله يتكلم الانجليزية بينما هي
من أشد الدول تخلفا علميا واقتصاديا، على سبيل المثال، هل نيجيريا
والكامرون وكل الدول الإفريقية الأنجلوفونية والسعودية والكويت ومصر...
دول متطورة تربويا وعلميا؟ وهل ترينداد-طوباقو دولة مزدهرة؟...
إن اللغات الأجنبية هي وسائل اتصال والانجليزية اليوم هي لغة
التواصل والنشر العلميين، لهذا فتعلمها فرض عين وشرط ضروري للالتحاق
بركب العلم والحضارة والنهل من مصادر العلوم المباشرة، وليس عبر فرنسا،
ولكنه يبقى غير كاف، فأزمة التعليم والبحث العلمي والتربية أعمق
من مجرد استبدال لغة بلغة، كما أننا لا نكاد نجد أمة أو دولة نهضت ورأت
النور إلا باستعمال لغتها، وهذا ما أيدته دراسات اجتماعية واقتصادية عن
العلاقة بين لغة التعليم ولغة الاقتصاد والإدارة وسوق العمل.
إن أزمة التعليم في الجزائر اليوم تجاوزت كثيرا مرحلة الإصلاح عبر
تغير وزير أو وزيرة، لأن حالة التعفن والرداءة التي وصل إليها التعليم
في الجزائر تجعل من عملية إصلاح التعليم مسألة بالغة التعقيد والتحدي،
وتحتاج لمشروع مجتمعي تتبناه الدولة والنخب وفتح حوار معمق يستدعى له
خيرة من أنجبت الجزائر من علماء ومفكرين مخلصين مرتبطين روحيا بهذا الوطن
برابط وثيق، سيان في ذلك بين من هو داخل الجزائر أو خارجها. هذا
المشروع لا يناقش مسألة المنظومة التربوية فحسب بل التعليم العالي
والبحث العلمي أيضا، فالأزمة مترابطة ولا يمكن معالجة إحداها بمعزل
عن الأخرى.
أخيرا أقول إنه من المؤسف أنه لا بن غبريط ولا لجنتها
الفرانكو-جزائرية رأت من سوءات التعليم شيئا، ولم تقع أعينهم إلا على
إشكالية العامية والفصحى في سابقة لا مثيل لها في دولة من الدول التي
تحترم نفسها وشعبها (بل حتى تلك التي لا تحترم شعبها)؛ وهو ما يطرح
تساؤلا كبيرا عن الدوافع الحقيقية وراء هذه التوصيات التي تركت الجوهر
وذهبت لتفتح جبهة صراع هُوِيات خطير يهدد التماسك الاجتماعي ويتجاوز
صلاحياتهم بل وصلاحيات رئيس الجمهورية ذاته.
إنه لمن دواعي الحيرة أن لا نرى من السيدة الوزيرة ولجانها مناقشة
جدية لمشاكل التربية، فلماذا لا تحدثنا الوزيرة عن الضرورة العاجلة لبناء
مدارس وأقسام جديدة لا يتعدى عدد التلاميذ فيها 25 تلميذا، يسهّل
على المعلم أداء مهامه والتعامل معهم، مثل كل دول العالم التي رأت نور
النهضة والتقدم؟
لماذا لم نسمع نقاشا صريحا حول المحتوى الركيك للمقررات وكثرة الكتب
وانخفاض مستوى المعلمين والأساتذة ودروس الدعم وعدم واقعية نسب النجاح
وتضخيمها من أجل إسكات وإرضاء النقابات والأولياء من دون أن ينال أبناؤهم
كمًا من المعارف يجعلهم أهلا لذاك النجاح؟
لماذا لم نسمع حديثا جادا عن الانفلات الأمني والأخلاقي الذي
تشهده مؤسساتنا التعليمية، حتى غدت أشبه بل أسوأ من المقاهي
والملاهي؟ بل كانت التوصيات هي إدخال لغة الشارع والمقاهي إلى
المدارس!
لو كانت توصيات الوزيرة ولجانها تقدم علاجا لمشكلة من المشاكل التي
أشرنا إليها لقلنا إن الوزيرة تسعى بجدية لإصلاح ما أفسده بن بوزيد بغض
النظر عن قناعاتها الإيديولوجية ونظرتها لهذا الشعب، ولكن عندما تكون
التوصيات واللجان بهذا الشكل فإنه من الصعب أن نصدق أنه يراد خير
بمدرستنا وأبنائنا.
No comments:
Post a Comment