تداولت وسائل الإعلام منذ أسابيع تصريحا لوزير التعليم العالي مفاده أنه
سيتم إلغاء شرط نشر مقالة علمية لمناقشة الدكتوراه، وكذلك هناك توجّه شبه
مؤكد إلى إلغاء شرط نشر مقالة علمية للحصول على التأهيل الجامعي. وهذا
جاء تلبية لمطالب نقابات الأساتذة حسب ما تم تداوله.
من الصعب أن يفهم المرء الطريقة التي يفكر بها المسؤولون عن قطاع
التعليم العالي في الجزائر، فعلى الرغم من أن جميع المؤشرات تدل على
انهيار تام لمستوى التعليم والبحث العلمي في الجزائر منذ سنوات عديدة،
إلا أن هناك رغبة، فيما يبدو، في تسيير هذه الرداءة، بل ودفع
الجامعة الجزائرية نحو رداءة أكبر، وربما تقنينها وحمايتها باللوائح
والقوانين.
الهدف من هذه المقالة ليس مناقشة هذه القرارات التي جاءت لتُفرغ
شهادة الدكتوراه من محتواها تماما، وربما تحوّلها إلى شهادة فخرية،
إلا ما رحم ربك، ولا مناقشة تحويل مسألة التأهيل الجامعي إلى مجرد
إجراء إداري بيروقراطي، لا يميز بين أستاذ وآخر، أو مجرد هِبة
للجميع إلا من أبى، ولكن الهدف هو فتح موضوع ظاهرة خطيرة انتشرت في
الأوساط العلمية الجزائرية منذ سنوات عديدة، وهي ظاهرة النشر العلمي
المُخادِع والذي لا يمتّ للبحث العلمي الجاد والمحترم بصلة.
وقد غدا هذا المسلك الطريق المتّبع تقريبا في قطاع عريض من أساتذة
الجامعات للحصول على شهادة الدكتوراه، وكذلك في الترقية في الدرجات
المختلفة، بل وصل الأمر إلى أن جامعات عديدة أنشأت مجلات داخلية في
مجالات علمية وتكنولوجية وأصبح النشرُ فيها مقبولا كمعيار للترقية
والحصول على شهادة الدكتوراه والتأهيل الجامعي. هذه الظاهرة هي في
الواقع أخطر وأكثر انتشارا من السرقة العلمية التي مازالت محصورة في
نطاق محدود ويسهل كشفُها.
على الرغم من أن جميع المؤشرات تدل على
انهيار تام لمستوى التعليم والبحث العلمي في الجزائر منذ سنوات عديدة،
إلا أن هناك رغبة، فيما يبدو، في تسيير هذه الرداءة، بل ودفع
الجامعة الجزائرية نحو رداءة أكبر، وربما تقنينها وحمايتها باللوائح
والقوانين.
في الحقيقة، مسألة إنجاز البحوث العلمية كشرط للترقيات والحصول على
الشهادات، مسألة يجب أن لا يختلف حولها اثنان في بلدان العالم
الثالث، لأننا وبكل بساطة لا نمتلك معايير علمية داخلية ولا تقاليد ولا
مرجعيات متفقاً عليها يمكنها أن تقيّم البحوث والجهود والإنجازات
العلمية وخاصة في المجالات العلمية والتكنولوجية. لهذا كان لزاما أن
نلجأ إلى معيار خارجي محايد ألا وهو النشر في المجلات العلمية الدولية
المُحكَمة، ولكن المشكلة التي أصبحنا نواجهها اليوم هي أن مصطلح
"المجلات العلمية الدولية المُحكمة" لم يعد كما كان قبل عقود، بل
غدا مصطلحا مائعا وسوقا اختلط فيه الغث بالسمين.
وللأسف، ومنذ عقدين على الأقل بدأت تظهر على الساحة مجلات علمية في
كل التخصصات تقريبا، هي في الحقيقة أقرب إلى أوكار الدعارة ودكاكين
النخاسة العلمية منها إلى مجلات علمية، فهي مجلات يؤسسها أشخاصٌ
وهيئات مشبوهة، وليس لهم أي ماض علمي ولا إنجازات تُذكر، وهدفهم
الرئيس هو إما جني المال (وهذه السمة العامة) أو صناعة شبكة علمية
بعددٍ من المجلات التي تنسّق مع بعضها من أجل صناعة ما يعرف بعامل
الأثر (Impact Factor) ودخول قاعدة البيانات الشهيرة
Thompson-Reuters والاستعانة بها في الترقيات وصناعة الوهم وتسويقه،
ثم الانتقال إلى جني المال فيما بعد لأن الأمر صار سوقا تدرّ
أموالا، وهناك دائما من هو مستعدّ لدفع مقابل مالي لينشر عمله.
تجدر الإشارة أولا إلى أن هناك مجلات تطلب مقابل النشر فيها مبالغ
مالية من المؤلف. ولكنها مجلات مرموقة جدا، بل ومن أفضل المجلات في
تخصصاتها العلمية.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نميّز هذه المجلات عن المجلات التجارية المحضة التي تغرق في الرداءة العلمية؟
في الحقيقة، لو كانت الضمائر حية والأمانة والكفاءة العلمية هي
السيدة، فإنه يُفترض أن يكون كل أستاذ مطلعا على المجلات العلمية
المحترمة في تخصصه وعلى تصنيفها، فهذا ليس بِدعا لمن مارس قليلا من
البحث العلمي الجاد أو سأل أهل الاختصاص من الجادين. كما أن المجلات
العلمية المحترمة ليست كلها بالمستوى نفسه، فهي طبقات ومستويات: منها
الرفيعة جدا التي لا تنشر إلا عددا قليلا جدا من البحوث العلمية ذات
المستوى. وهنا ليس مطلوبا أن ينشر المرء بالضرورة في هذه المجلات،
فليس كل الأساتذة علماء ومبدعين من الطراز الأول، ذلك أن الذين ينشرون
في هذه المجلات هم ممن يمكن أن نسميهم طبقة "الملوك العلميين"
والأمراء، وثمة أيضا فئة ثانية ممن يحصلون على أعلى الجوائز من نوبل
وميدالية فيلدز وما حام حول حماها من التقديرات.
غير أن هناك مجلات علمية عريقة كثيرة (تصدر منذ عقود عديدة، ومنها
ما يصدر منذ أزيد من قرن) في كل التخصصات، ولديها معايير علمية
محترمة، وأيضا مستوياتها متفاوتة، ومن ينشر فيها يعتبر باحثا علميا
جادا، ومن المفترض أن هذه المجلات في متناول الباحثين الجزائريين
الجادين. كما أنه ليس ضروريا أن ينشر المرء عشرات المقالات فيها، بل
يكفي أن ينشر مقالا كل سنة أو سنتين، ويحافظ على القيمة العلمية
لما يُنشر وألا ينغمس في الرداءة (فظروف العمل والبحث في الجزائر
تختلف عن الغرب).
تجدر الإشارة هنا إلى أن عددا لا بأس به من الباحثين الجزائريين
ينشرون بانتظام في هذا المستوى من المجلات المحترمة حتى وإن لم يكن
عددُهم كبيراً. ولكن يبقى أن هؤلاء هم المنارة الحقيقية للبحث العلمي
في الجزائر على الرغم من أنهم أناس لا يسمع عنهم أغلب الجامعيين في
الجزائر، فهم عادة أقل صراخا ويعملون في صمت ولا تستهويهم الأضواء ولا
المناصب ولا تضخيم عدد المقالات.
يُتبع.....
No comments:
Post a Comment