قل للذين تأبطوا محافظ ملفات الشر، فحزموا حقائبهم وأمتعتهم، وأتوا –إلى
جنيف- يضربون أكباد الطائرات، ويشقون عنان السموات، قل لهم، عم ستتفاوضون؟
وعلام ستتفقون؟
فسوريا التي أنهيتموها بالقهر والاستبداد، وإذلال العباد، وهدم البلاد، لم
يعد لها من بواك يبكونها، ولا حماة يحمونها.
فقد استولى على الشام طائرات البوم، وأراذل
القوم، وكل ما رخص من السوم. بلاد، جوعتموها بحصاركم، وحطمتموها
"بجاغواركم"، وهجرتم أهلا بطغيانكم واستكباركم.
وإلا فمتى كان جنيف، ملاذ كل طاهر وعفيف؟ ومتى كانت سويسرا مناصرة لجيش الإسلام، ومجاهدي النصرة؟
إن المأساة الدامية التي قدمتها سوريا للعالم،
من قتل للناس على الهوية، وتجويع للأبرياء حتى المنية، وتحالف أهل الشر، في
الجهر والسر، على العقيدة والقومية، إن مأساة هذه فصولها، لم تنفع فيها
رقية ولا تقية.
سيجد المتفاوضون في جنيف حول سوريا، الكرسي
الوثير، والمطر الغزير، والفندق الكبير، ولكن بالمقابل سيكون أمامهم الملف
الشائك الخطير، والمتآمر الأجنبي القدير، والمواطن الذليل الصغير.
إنها مفاوضات غير متكافئة، ما دامت تدير دفتها من خلف الستار قوة متواطئة، تزرع الشر وتعين عليه، وتبذر الضر وتشجع ذويه.
فبأي لغة سيتحدث المتفاوضون السوريون، وقد
اختلطت اللغات عليهم من الروسية، والفارسية إلى الانجليزية الأمريكية،
وآخرها العربية، فبأي حديث سيتفاهمون؟ وبأي لسان سيخاطبون؟
لقد كانت سوريا الشام، مضرب المثل في التفاهم
والوئام، وقبلة العرب في الثقافة وأدب الكلام، ومناط السائحين، بحثا عن
الاستقرار والسلام، حتى طاف عليها طائف، من جنبها، ومن فوقها ومن تحتها،
وعن يمينها وعن شمالها، فحول الربوع من ركوع وخشوع وشموع، إلى خضوع ودموع
وشيوع.
من هو القاتل، ومن هو المقتول –اليوم- في سوريا؟ وعلام يتم هذا القتل؟ ومن الذي يضع خيوط الختل والفتل؟
كانت مشكلة سوريا، في بدايتها، مشكلة بسيطة
المقدمات، واضحة الاستنتاجات، مشكلة الحاكم المستبد بأمره، الذي لا يؤمن
إلا بنفسه، فلا يشاركه في الحكم أحد، ولا راد لقضائه في الأحكام، أحادية في
السلطة، وتسلط في الحزبية، وإلزام الجميع بنفس القناعة والعبقرية،
وبالمقابل كانت هناك معارضة، جل مطلبها، أن يفسح لها المجال كي تقول
كلمتها في طريقة حكم بلدها، وأن تمكن الكفاءات من الإسهام في النهوض
بوطنها، على أساس العلم، والعدل، والحرية، وفي كنف الأمن والسلم، وحسن
الفهم.
وكان يمكن –والحالة هذه- إيجاد حل بين الحاكم
والمحكوم، بفتح المجال أمام التعددية وهي حق إنساني، والتمكين للديمقراطية
وهي أصل إيماني، ولو تم هذا لجنبت سوريا باسم الحكمة والعقل كل هذه الدماء،
وهذه الأشلاء، وما أحاط بها من ويلات وبلاء.. غير أن شياطين الإنس والجن،
عكروا ماء السوري الرقراق، وصاروا يصطادون فيه، فحوّل نهار سوريا إلى ليل،
ونورها إلى ظلام، ووئامها إلى خصام.
لقد انتهت سوريا، في أعين أبنائها وأشقائها،
يوم مكنت للغزو الأجنبي المسلح، من أن يحتل ثكناتها وحقولها، وأن يلوث
ملكاتها وعقولها، فصار السوري يقتل أخاه بالوكالة عن القوة الأجنبية
الغازية.
فكيف يمكن –والحالة هذه- اليوم، البحث عن
الحلول؟ ومع من يتم التفاوض؟ أمع الروس الذين يقذفون بالصواريخ منازل
الآمنين المطمئنين؟ أم مع جنود حزب الله، الذين يجوعون في "مضايا"
المساكين، ويهدمون مساجد العبّد السنيين؟ أيكون التفاوض مع الأمريكيين، وهم
–كما يقول إمامنا الإبراهيمي- أول الشر وآخره؟
لذلك نقول وبحق: عم يتفاوضون؟ إن السوريين
الحقيقيين مغيبون عن المشهد التفاوضي في جنيف، مادام يحق للروس أن يفرض
شروط التفاوض وطبيعة المفاوض. ومادام الأمريكي يملك حق إملاء شروطه على
المعارض، كي يقبل التفاوض، وبلا شروط مسبقة.
ومادام حزب الله، يفرض حصاره على جزء من الوطن السوري، فيجوعه، ويروعه، ليطوعه للسلطان الحاكم.
أنّى يكون التفاوض مجديا، وقد نزعت من
السوريين، سلطة التفاوض داخليا وخارجيا؟ وحرموا حق تعيين وفدهم المستقل،
الذي يفاوض على أساس الندّ للند ليتمكن من استعادة الحق المسلوب، والتمكين
للشعب المغلوب، وإحقاق الحق المطلوب والمرغوب.
إنّ سنوات الحرب الدامية التي أودت بخيرة أبناء
الشعب السوري، وهجرت طاقاته، وهدمت ممتلكاته، وأتلفت خيراته، إن هذه
السنوات لكفيلة بإلهام الدرس النافع، ومن هذه الدروس:
1- عملية
الإخلاء ثم الملأ، فكل من كان سبباً في غزو البلاد من الدخيل، وتهجير
ابنها المواطن الأصيل... إن هذا لاحقّ له في حكم سوريا المستقبلية.
2- إجلاء كل قوة أجنبية، مدنية كانت أم عسكرية من الأديم السوري، كي يبنى الوطن على الإخاء والصفاء، والإباء، من أجل النماء.
3- تحقيق المصالحة الشاملة بين أبناء الوطن الواحد، على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وأن المنتصر الوحيد، إنما هو الحق السوري.
4- التمكين لعودة النازحين والمهجرين والسجناء والمعتقلين، ليشارك الجميع في عملية إعادة البناء، واستئناف العمل الحضاري البنّاء.
إن المتفاوضين في الفنادق الدافئة بجنيف، عليهم
أن يضعوا نصب أعينهم، فرائص السوريين المرتعدة، صبية، ونساء، وشيوخا، من
شدة البرد، وانعدام أقل الوسائل لمقاومة البرد، وأهمها الغذاء والدواء.
ونذكر المتفاوضين بقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
فاوِض ولا تخفض جناحك ذِلة إن العدو، سلاحه مفلول
فاوِض فخلفك أمة، قد أقسمت ألا تنام، وفي البلاد دخيل
هكذا –إذن- يجب أن يكون الأفق التفاوضي، وإلا فعم يتفاوضون؟
No comments:
Post a Comment