كثيرا
ما نقرأ على صفحات الجرائد، ونسمع في واقعنا أخبارا تدمي القلوب، لعباد
لله مسلمين أغراهم الشّيطان بسلوك سبل الغواية وأوقعهم في مستنقعات
الشّهوات والموبقات، وبلغ بهم إلى حيث بلغ بأمم سابقة سلّط الله عليها أليم
عقابه. لكنّنا في المقابل نقرأ ونسمع في أحيان أخرى أخبارا تبعث على
الأمل، وتدلّ على أنّ الخير في هذه الأمّة سيبقى إلى قيام السّاعة.
في ليلة الجمعة الماضية، توفّي في مدينة زيغود يوسف، بولاية قسنطينة،
رجل صالح –نحسبه كذلك- في أثناء صلاة العشاء، وهو بين الرّكوع والسّجود بين
يدي ربّ الأرض والسّماء، بعد أن عاد من عمله وجلس مع والدته وآنسها
ومازحها.. قُبضت روحه في ليلة مباركة في مقام هو أشرف مقام للعبد في هذه
الحياة، ودفن بعد أن صلّى عليه جمع غفير من النّاس بُعيد صلاة الجمعة ودعوا
له بالرّحمة والمغفرة.
إنّها خاتمة حسنة يتمنّاها كلّ عبد مؤمن مخلص لله، يرجو أن يلقى
خالقه ومولاه على طاعة من الطّاعات، ليبعث يوم القيامة على ما مات عليه،
ولا شكّ أنّ مثل هذه الخواتيم لا تنال بالأمنيات، لكنّها تنال بالطاعات
والقربات؛ فمن سنن الله الماضية أنّ عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء
بُعث عليه.
عندما نسمع ونقرأ عن مثل هذه الخواتيم، نحسّ بحقارة هذه الحياة
الدّنيا، ويزداد يقيننا بأنّها ظلّ زائل وسنوات معدودات، طوبى لمن قضى
أيامها ولياليها مقبلا على طاعة الله، لا همّ له إلا أن يرضي خالقه
ومولاه.. سنوات معدودات، لا يعلم عددها إلا الله عالم الغيب والخفيات.. ولا
يضرّ العبدَ المؤمن لو عاشها في طاعة الله أن كان من أفقر عباد الله، ولا
ينفعه لو عاشها يتقلّب في سخط الله أن كان من أغنى أهل هذه الدنيا، في
الحديث أنّه يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في
النار صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟
فيقول: لا والله يا ربّ، ويؤتى بأشدّ النّاس بؤسا في الدّنيا من أهل
الجنّة، فيصبغ صبغة في الجنّة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل
مرّ بك شدّة قطّ؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ما مرّ بي بؤس قط ولا رأيت شدة
قط.
سنوات معدودات إمّا أن يثقل فيها ميزان العبد بالحسنات وإمّا أن
يثقل بالسيّئات. "كلّ النّاس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها".. سنوات
معدودات، فما الذي يغري الواحدَ منّا بإضاعتها في الغفلة عن الله؟ ما الذي
يمنعه المحافظةَ على الصلاة في بيت الله؟ ما الذي يحول بينه وبين صون لسانه
عن الخوض في أعراض عباد الله، وعينه عن النّظر إلى ما يسخط الله، ويده عن
أخذ الحرام وإعطاء الحرام، وجوفه عن أكل الحرام؟. ماذا يخسر الواحد منّا لو
عاش هذه السّنوات المعدودات في خصاصة من متاع الدّنيا ثمّ لقي الله وهو
راض عنه؟ لقي الله وقد دمعت عينه أكثر من مائة مرّة من خشية الله، وقد مضى
من عمره أربعون سنة أو خمسون أو ستون لم يؤخّر صلاة عن وقتها.. لقي الله
وقد صام أكثر من ألفي يوم في سبيل الله.. لقي الله وأبوه عنه راض وأمّه عنه
راضية.. لقي الله وليس بينه وبين أحد من عباد الله عداوة ولا شحناء.. لقي
الله وقد تاب من كلّ خطيئة ومعصية... وفي المقابل، ماذا ينفع الواحدَ منّا
لو عاش هذه السّنوات المعدودات يأكل ويشرب، وينام ويصحو ويلهو ويلعب، ثمّ
لقي الله بعد هذه السّنوات بقلب أقسى من الحجر، وبعين لم تدمع يوما من خشية
الله، وبصحيفة مثقلة بالكبائر والأوزار والمعاصي والذّنوب.. لقى الله وقد
نام عن صلاة الصّبح أكثر من 7 آلاف يوم، وهو قد اغتاب إخوانه المسلمين أكثر
من 100 ألف مرّة، وقد أغضب والديه أكثر من 500 مرّة، وقد دخّن أكثر من 150
ألف سيجارة، وقد نظر إلى النّساء أكثر من 30 ألف مرّة، وقد قضى في هذه
الدّنيا عقودا من عمره ذاهلا عن الموت، حتى فاجأه من غير ميعاد.هذا، وذاك يموتان، لكن شتّان بين موت وموت، شتان بين من يرى عند الاحتضار ملائكة بيض الوجوه، وبين من يرى ملائكة سود الوجوه.. شتان بين من يبيضّ وجهه عند الموت وبين من يسودّ وجهه عند الاحتضار ((يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه)).. شتان بين من تُنادى روحه "أيّتها الرّوح الطّيّبة"، وبين من تنادى روحه "أيّتها الرّوح الخبيثة".. شتان بين من يبشّر في لحظات موته بمقعده في الجنّة وبين من يعزّى بمستقرّه في النّار.. شتّان بين من يساق يوم القيامة في زمرة الذين اتّقوا ربّهم، وبين من يحشر في زمرة الذين ظلموا أنفسهم.
نسأل الله أن يحسن ختامنا ويجعل خير أيامنا يوم نلقاه.
No comments:
Post a Comment