من لطف الله تبارك وتعالى بعباده، أنّه جعل هذه الحياة الدّنيا كتابا
مفتوحا يُقرأ بكلّ اللّغات، يتصفّحه المتعلّم والأميّ والعالم والجاهل،
ويجد فيه جميعُهم من الدّروس والمواعظ، ما تصلح به أحوالهم، وما يعود بهم
إلى الطّريق التي رسمها الأنبياء والمرسلون لتحقيق سعادة الدّارين؛ دروس
ومواعظ ينتفع بها كلّ من كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد، وكلّ من
اختار أن يتّعظ بغيره قبل أن يكون موعظة لغيره.
من دروس هذه الحياة الدّنيا، أنّ العبد المسلم ينبغي أن يحذر أشدّ الحذر
أن يؤتى الإسلام من قِبله، أو أن يكون سببا في صدّ غيره عن دين الله، وعن
طريق الهداية والاستقامة والصلاح، ورُبّ موقف واحد يقفه المسلم، يمكن أن
يكون سببا في هداية غيره، كما يمكن أن يكون سببا في صده عن سبيل الله.
يُروى أنّ إمام أحد المساجد في المغرب، ابتُعث للعمل في العاصمة
البريطانية لندن، كان يركب الحافلة كلّ يوم من مقر إقامته إلى مكان عمله،
وقد اعتاد قابض إحدى الحافلات ركوبه معه، وفي يوم من الأيام اكتشف الإمام
بعد دفع أجرة الحافلة أنّ القابض أعاد إليه 20 بنساً زيادة عن المفترض،
فكّر الإمام وقال في نفسه إنّ عليه إرجاعَ المبلغ الزائد لأنه ليس من حقه،
ثم فكّر مرة أخرى وقال في نفسه: "عليّ أن أنسى الأمر، فالمبلغ زهيد وضئيل،
ولن يهتم به أحد، كما أنّ مالك هذه الحافلات يحصّل ما لا يحصى من المال ولن
يضره مثل هذا المبلغ الزهيد، سأضعه في مصالح المسجد، إذن سأحتفظ بالمال
الزائد وأعتبره هدية من الله وأسكت"، توقّفت الحافلة عند المحطة التي
يريدها الإمام، لكنه قبل أن يخرج من الباب، توقف لحظة ومدّ يده وأعطى
القابض العشرين بنساً، وقال له: تفضّل، لقد أرجعتَ إليّ أكثر من حقي، هنا
أخذ القابض المال وابتسم، وهو يقول: "ألستَ الإمام الجديد في هذه المنطقة؟
لقد كنت أفكّر منذ مدة في الذهاب إلى مسجدكم للتعرف على الإسلام، وقد
أعطيتك المبلغ الزائد عمداً لأرى كيف ستكون ردّة فعلك".. ذُهل الإمام، وما
أن نزل من الحافلة، حتّى شعر بارتعاش في ساقيه وكاد يقع أرضاً من رهبة
الموقف. تمسّك بأقرب عمود ليستند إليه، ونظر إلى السماء ودعا باكيا: يا
الله، كنت سأبيع الإسلام بعشرين بنساً!
لقد كاد هذا الإمام في لحظة ضعف أن يبيع دينه، ويكون سببا في صدّ رجل عن
دين الله، وهو الذي ذهب إلى تلك البلاد ليدعو النّاس إلى دين الله الحقّ..
وهذا الموقف الذي عاشه في لحظة من لحظات حياته، لعلّ كثيرا منّا يعيشونه
كلّ يوم، ليس مع غير المسلمين، وإنّما أيضا مع عباد لله مؤمنين أغرتهم
الدّنيا وألهتهم عن دينهم، ويبحثون عن قدوات صادقة ترسم لهم طريقا واضحا في
هذه الحياة يوصلهم إلى سعادة الدّارين.. لو فتّش كلّ واحد منّا في حياته،
لربّما وجد كثيرا من المواقف التي باع فيها دينه بعرض من الدنيا قليل،
وتسبّب في صد بعض من هم حوله عن طريق الهداية والصلاح.
لقد عمل في بلادنا هذه الجزائر، كثير من الأجانب من غير المسلمين من
الصينيين والإيطاليين والألمان والمصريين، ورأوا من أخلاق بعضنا ما جعل
عددا كبيرا بينهم يقطعون أي تفكير في اعتناق الإسلام، لِما رأوا من إخلافٍ
للوعود، ونقض للعهود، واستحلال للخديعة والغشّ والغدر، وإضاعة للأعمال،
وسرقة للمتلكات.
الآباء من جهتهم أصبحوا سببا في ضياع أبنائهم، حينما اختار كثير منهم أن
يكونوا قدوات سيّئة لمن يرمقون أقوالهم وأفعالهم، فكثير هم الآباء الذين
يأمرون أبناءهم بالاستقامة والصلاح ويصدّونهم بأفعالهم عن سبيلهما، تجد
الأب يأمر أبناءه بالصلاة، وهو الذي يجمع الصلوات عند وقت العشاء، ولا يصلي
صلاة الفجر لوقتها إلا في رمضان، وتجده يزجر أبناءه عن ارتياد مقاهي
الإنترنت، وهو الذي يسهر إلى ساعات متأخرة من الليل أمام القنوات التافهة،
تجده يأمر بناته بالحجاب وهو الذي لا يغضّ بصره عن النظر إلى الفتيات
المتبرجات ممن هنّ في سنّ بناته، تجده ينهى أبناءه عن التدخين، وهو الذي لا
تكاد تفارق السيجارة شفتيه، بل ولا يتورع عن إرسال أبنائه لشراء علب
السجائر!
المعلّمون والأساتذة بدورهم، اختار بعضهم أن يكونوا قدوات سيّئة
لتلاميذهم وطلبتهم، حينما أصبح همّهم الأكبر لا يتعدّى الظّفر بالرّاتب
وتوابعه، ولا يهتمّون بالأمانة التي تحمّلوها، وبأعين تلاميذهم البريئة
التي ترمق ما يصدر عنهم من كلمات وتصرّفات، ليجعلوها منهجا لحياتهم، حتى
وصل الأمر ببعض المعلّمين والأساتذة إلى التلفّظ بالكلمات النّابيّة، وإلى
سبّ تلاميذهم وطلبتهم بأقذع الكلمات، وإلى تعاطي السّجائر وسؤال تلميذاتهم
وطالباتهم عن الأغاني والمسلسلات، وربّما عن الأطباق والأطعمة!
No comments:
Post a Comment