أيُّهما أخطر: تفكيك الدول بإعادة تقسيم المقسّم منها؟ أم تفكيك الشعور
بالانتماء القومي، وتمزيق النسيج الاجتماعي النفسي، ومسخ الانتماء الديني
الثقافي والحضاري للمجموعات الوطنية، ورسم حدودٍ بثارات الدم؟ سؤالٌ قلّما
تطرحه النخب في الفضاء العربي، وهو يسلق كالضفدع على نار ثابتة تسعر بمنسوب
تصاعدي.
لنتّبع سببا، بفحص ودراسة حالات كثيرة فقدت
فيها شعوب الفضاء العربي أبسط معالم ومقوّمات الدولة، حتى قبل أن تُبتلى
المنطقة بالظاهرة الاستعمارية، وقبلها فترة الخضوع الطوعي لولاية المتشابه
من "الخلافة الإسلامية" مع الفاطميين، والبويهين، والسلاجقة، والصفويين،
والعثمانيين، كان سقوط الدول المحلية فيها محض تفصيل، لم يترك أثرا يُذكر
في الذاكرة الجمعية لشعوب كان الإسلام قد حصّنها من أسوأ تبعات تداول الدول
عليها، ما لم يقترب التداول من المعتقد ومن الروابط الاجتماعية والثقافية
والنفسية، التي كانت وراء بقاء شعور الانتماء لأمَّةٍ أوسع من القبيلة ومن
الدولة المحلية أو الإقليمية، شعورا حيا، نابضا، متجدِّدا، هو ما مكَّنها
من الصمود أمام الزحف الاستعماري الاستيطاني قبل العودة للاندماج الطوعي
السريع في النسيج.
ثم
لنتّبع سببا آخر، بفحص تبعات تقسيمات "سايكس ـ بيكو" للفضاء في عام 1916
إلى دويلاتٍ ضعيفة، وُضعت جميعها تحت وصايات أجنبية ظاهرة فجّة، أو خفيّة
ناعمة، تقسيمات كان لها بلا ريب تبعات سيّئة كثيرة، ليس فقط على فرص إعادة
بناء كيان أوسع بحدود جغرافية سياسية متماهية مع حدود الهوية الدينية
والثقافية والحضارية القائمة قبل التقسيم، بل كانت أسوأ حتى على فرص بناء
كيانات وطنية متوازنة قادرة على صياغة وإدارة مشاريع وطنية مُلهمة لشعوبها،
ومع ذلك فشل تقسيم "سايكس ـ بيكو" في تفكيك أو نسخ ومسخ الذاكرة الجمعية،
بمرجعياتها الدينية، والثقافية، والحضارية، وخيوط النسيج الاجتماعي
والسيكلوجي الفوق ـ قُطري.
والآن
لنا أن نتبع سببا ثالثا، بفحص ودراسة ما بات تحت الرصد من مخلفات "الحملة
الفرنجية" الأخطر على هذا الفضاء من أيّ عدوان تعرّض له في السابق، من
الحملات الفرنجية الأولى، وحتى من الآثار المدمرة لعولمة الغزو الاقتصادي
والثقافي والتكنولوجي الناعم له، لنكتشف أن أحد أبرز مظاهر العدوان
بـ"الفوضى الخلاقة" هو الهجوم المنهجي على الذاكرة الجمعية ونسيجها
الاجتماعي الثقافي الديني والسيكلوجي، تمزِّقه إربا إربا، وتصنع له، وفيه،
عداواتٍ دائمة متأصِّلة، ليس فقط بين مِلله ونِحله، وطوائفه ومذاهبه، ولا
بين دويلاته وقومياته، ولا حتى بين أعلى وأدنى مما تعارف عليه العرب من
تقسيمات الانتماء لـ: الجذم، والجماهير، والشعوب، والقبائل، والعمائر،
والبطن، والفخذ، والعشيرة، والفصيل، والرهط، بل بين أدنى من ذلك، بين أبناء
الأسرة الواحدة، وقد تسلّل إليها داء الكراهية والحقد، وجائحة طلب ثارات
الدم، وفيروس الانتشاء الأحمق بصور ما يُراق من دم عند الجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، لا فرق بين من يقتل من؟ بيد قريب يتجهّم قريباً، أم على يد عدو قد مُلك أمر الجميع.
تلكم
هي "حدود الدم" التي تصنعها اليوم الفوضى الأمريكية الخلاقة، والتي سوف
تعوق إعادة بناء أي كيان: سيان بالحدود الدينية المذهبية أو القومية
التقليدية، أو بحدود الدولة القُطرية، أو حتى بحدود أصغر.
No comments:
Post a Comment