كثيرا ما يردّ الواحد من إخواننا وأحبابنا الشّباب إذا دعي إلى التّوبة
والاستقامة على دين الله، قائلا: يا أخي، دعني أعش شبابي.. دعني أتمتّع
بالحياة.. أتريدني أن أموت قبل الأوان؟!.. وهذا الكلام أصبح واقعا لكثير من
فتيات وشباب المسلمين الذين يَعدّون الالتزام في مرحلة الشّباب تشدّدا
وتزمّتا وشيخوخة قبل الأوان، يظنّ الواحد منهم أنّ لزوم صلاة الجماعة
والمحافظة على تلاوة القرآن والذّكر والدّعاء، يخصّ أولئك الشّيوخ
الطّاعنين الذين ملّتهم الحياة وملّوها.. لسان حال هؤلاء الشّباب ينطق
قائلا: العمل للآخرة، لا يكون إلا بعد التّقاعد من العمل للدّنيا
أصبح شبابنا يستهزئون بالشابّ المؤمن إذا اختار طريق الاستقامة
والالتزام، وإذا ما مرّ بهم يتغامزون ويتهامسون وربّما خاطبوه مستهزئين:
ادعُ لنا يا شيخ! وإذا ما اختارت الفتاة المسلمة طريق الطّاعة والالتزام
ولبست الحجاب الواسع، وتزيّنت بغضّ البصر والحياء، استهزأت بها الفتيات من
حولها وقلن لها: ما هذا الذي فعلته في نفسك؟.. أنت لا تزالين صغيرة..
تمتّعي بشبابك.. فإذا ما أصرّت على ما هي عليه، صرن يصفنها بالتخلّف
والتحجّر، وأصبحن يستهزئن بها وينادينها بالحاجّة والشّيخة وغيرها من أوصاف
وألقاب الازدراء... ولعلّ أهمّ سبب في هذا الواقع هو سوء ظنّ كثير من
الشّباب بالله، واعتقادهم أنّه –سبحانه- جعل التّعاسة والشّقاء في لزوم
طاعته، والسّعادةَ في الغفلة عنه ومعصيته! ولاشكّ أنّ هذا الفهم هو من وحي
الشّيطان للّذين يعلمون ظاهرا من هذه الحياة الدّنيا، فالله جلّ وعلا يقول:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، ويقول سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى* وَمَنْ
أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى}؛ فالاستقامة الجادّة والسّعادة الحقيقية أمران
متلازمان لا يفترقان، لأنّ المستقيم على طاعة الله يحسّ بأنّه يسعى في صلاح
دنياه وأخراه، ويعمل لحياة أبدية لا تنقضي بانقضاء الدّنيا.. هو يعلم أنّ
اللذّة الحقيقية ليست لذّة البدن، وإنّما هي لذّة الرّوح التي تجد أنسها
وراحتها في الصّلة بخالقها وبارئها وفي طاعته وطلب رضاه، ويعلم أنّ
السّعادة الكاملة والدّائمة هي التي تُنال في دار الجزاء والكرامة، حيث
الرّاحة التي لا يشوبها تعبٌ ولا نصب، والأُنس الذي لا يعكّره همّ ولا كدر.
أمّا الشابّ الذي يسوّف ويؤخّر الاستقامة إلى سنّ الكهولة
والشّيخوخة، فهو علاوة على أنّه يستعبد روحه لبدنه، ويمتّع جسده بشهوات
آنيّة تعقبها الغصص والحسرات، فإنّه لا يضمن أن يمدّ الله في عمره ويبلّغه
الخمسين والستّين؟، وإذا بلغ الخمسين والستّين، فما الذي يضمن له أن يوفّق
للتّوبة؟ إنّ من شبّ على شيء شاب عليه، ولكلّ امرئ من دهره ما تعوّد،
والنّفس كالإسفنجة إذا أشربت حبّ الشّهوات تعلّقت بها وأصبحت تسري فيها
سريان الدّم في الجسد؛ لا يستطيع صاحبها الإقلاع عنها إلا أن يمنّ الله
عليه بفضله.
النّفس بطبعها تميل إلى الشّهوات وتؤثر الماديات، وتحتاج إلى جهد
ومجاهدة لتستقيم على طاعة الله وتتلذّذ بالعبوديّة له جلّ في علاه، وإذا لم
يجاهد العبد المؤمن نفسه في مرحلة الشّباب، فربّما يصبح ذلك مستحيلا في
مرحلة الكهولة والشّيخوخة، بعد أن تألف النفس الغفلة والشّهوات وتصبح عادة
وطبعا لها لا تقوى على مفارقتها، لذلك فلا عجب أن نرى في واقعنا شيوخا في
عقود متأخّرة من أعمارهم يلهثون خلف الشّهوات، وينافسون الشّباب في طرق
الغواية والمنكرات، لأنّهم سوّفوا لأنفسهم حتى اعتادت تلك الحال، وصعب
عليهم مفارقتها بعد ذلك.
الأمر عظيم وخطير، والغفلة عن مجاهدة النّفس قد تؤدّي بصاحبها إلى
الهلاك. ربّما تصل الحال بالعبد إلى حدّ يتمنّى معه التّوبة إلى الله ولا
يستطيع، يريد أن يصلي الفجر لوقتها ولا يستطيع.. يريد أن يفتح المصحف ولا
تطاوعه نفسه.. يريد أن يذكر الله ولا يطاوعه لسانه.. يقول نبيّ الهدى صلّى
الله عليه وآله وسلّم: "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّ
قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأيّ قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء،
حتى تصير القلوب على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضرّه فتنة ما دامت
السّماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً ولا
ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه".
No comments:
Post a Comment