الوهابية في الوضع اللّغويّ، نسبةٌ إلى "الوهّاب"، والوهاب اسم من أسماء
الله الحسنى، يُفترض ألا ينسب إليه أحد على سبيل الازدراء والتّحقير
والتّعيير والتّنفير، لقوله تعالى ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون))، لكنّ من يردّدون هذه التسمية لا
يقصدون من إطلاقها النّسبة إلى الوهّاب سبحانه، وإنّما يعيّرون بها أتباع
الحركة الإصلاحية السلفية، ويشنّعون عليهم بنسبتهم إلى محمّد بن عبد الوهاب
النّجدي الحنبلي (ت 1792م)، الذي عارض دعوتَه أقوام، وعاتبه على شدّته
فيها أعلام، وأثنى عليه وعلى دعوته أعلام آخرون كالصّنعانيّ والشّوكانيّ
ومحمّد عبده وأحمد أمين ومحمّد رشيد رضا، ومحمّد الغزالي والقرضاويّ، وابن
باديس والإبراهيمي والطيّب العقبي ومبارك الميليّ وأحمد حمّاني، وغيرهم
كثير.
عندما أنشِئت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م، وأخذ
أعلامها يقارعون الطرقية القبورية، ثارت ثائرة المنتفعين بـ"الطّرائق"،
ولأنّهم لم يجدوا من الحجج ما يُسعفهم للردّ على مقالات وكتابات ابن باديس
والإبراهيميّ وإخوانهما، فقد لاذوا بالهمز واللّمز والنّبز، وأخذوا ينسبون
إلى علماء الإصلاح ما هم منه براء، وافتروا عليهم أنّهم يكفّرون المسلمين،
وعيّروهم بالوهابيّة، وقد تصدّى علماء الجمعية للردّ على هذا التّعيير،
وكان من أبرز ردودهم مقال دبجه فارس البيان الإمام محمّد البشير
الإبراهيميّ رحمه الله، ونشر في العدد 9 من جريدة "السنّة النبويّة
المحمّدية" تحت عنوان "تعالوا نسائلكم"، حيث قال: "ويقولون عنّا إننا
وهابيون، كلمة كثر تردادها في هذه الأيام الأخيرة، حتى أنست ما قبلها من
كلمات، عبداويين وإباضيين وخوارج، فنحن بحمد الله ثابتون في مكان واحد، وهو
مستقرّ الحقّ، ولكنّ القوم يصبغوننا في كل يوم بصبغة، ويَسِموننا في كلّ
لحظة بِسِمة، وهم يتّخذون من هذه الأسماء المختلفة أدوات لتنفير العامّة
منّا وإبعادها عنّا، وأسلحة يقاتلوننا بها، وكلّما كلّت أداة جاءوا بأداة،
ومن طبيعة هذه الأسلحة الكلال (الضعف) وعدم الغناء، وقد كان آخر طراز من
هذه الأسلحة المفلولة التي عرضوها في هذه الأيام "وهابي" ولعلهم حشدوا لها
ما لم يحشدوا لغيرها وحفلوا بها ما لم يحفلوا بغيرها، ولعلّهم كافأوا مبدعا
بلقب "مبدع كبير".
وواصل الإبراهيميّ قائلا: "إنّ العامّة لا تعرف من مدلول كلمة "وهابي"
إلا ما يعرّفها به هؤلاء الكاذبون، وما يعرف منها هؤلاء إلا الاسم، وأشهر
خاصّة لهذا الاسم وهي أنّه يذيب البدع كما تذيب النّار الحديد، وإنّ العاقل
لا يدري ممّا يعجب! أمن تنفيرهم باسمٍ لا يَعرف حقيقتَه المخاطَب منهم ولا
المخاطِب! أم من تعمّدهم تكفير المسلم الذي لا يعرفونه نكاية في المسلم
الذي يعرفونه! فقد وجّهت أسئلة من العامّة إلى هؤلاء المفترين من "علماء
السنّة" (وهي جمعية أسّسها الطرقيون بإيعاز من السّلطات الفرنسية آنذاك
مضاهاة لجمعية العلماء) عن معنى الوهابي فقالوا: هو الكافر بالله وبرسوله،
((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا
كَذِبًا))، أمّا نحن فلا يعسر علينا فهم هذه العُقدة من أصحابنا، بعد أن
فهمنا جميع عقدهم، وإذ قد عرفنا مبلغ فهمهم للأشياء وعلمهم بالأشياء،
فإنّنا لا نردّ ما يصدر منهم إلى ما يعلمون منه، ولكنّنا نردّه إلى ما
يقصدون به، ولا يقصدون بهذه الكلمات إلا تنفير الناس من دعاة الحقّ، ولا
دافع لهم إلى الحشد في هذا إلا أنّهم موتورون لهذه الوهابية التي هدمت
أنصابهم، ومحت بدعهم فيما وقع تحت سلطانها من أرض الله، وقد ضجّ مبتدعة
الحجاز فضجّ هؤلاء لضجيجهم، والبدعة رَحِم ماسّة، فليس ما نسمعه هنا من
ترديد كلمة "وهابي" تُقذف في وجه كلّ داع إلى الحقّ، إلا نواحا مردّدا على
البدع التي ذهبت صرعى هذه الوهابية، وتحرّقا على هذه الوهابية التي جرفت
البدع، فما أبغض الوهابية إلى نفوس أصحابنا، وما أقسى هذا الاسم على
أسماعهم، ولكن ما أخفّه على ألسنتهم حين يتوسّلون به إلى التّنفير من
المصلحين، وما أقسى هذه الوهابية التي فجعت المبتدعة في بدعهم وهي أعزّ
عزيز لديهم، ولم ترحم النفوس الولهانة بحبّها، ولم ترْثَ للعبرات المراقة
من أجلها".
ثمّ تابع الإبراهيميّ قائلا: "يا قوم! إنّ الحق فوق الأشخاص، وإنّ
السنّة لا تسمّى باسم من أحياها، وإنّ الوهابيين قوم مسلمون يشاركونكم في
الانتساب إلى الإسلام، ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده، ويفوقون جميع
المسلمين في هذا العصر بواحدة، وهي أنّهم لا يقرّون البدعة، وما ذنبهم إذا
أنكروا ما أنكره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتيسّر لهم من
وسائل الاستطاعة ما قدروا به على تغيير المنكر؟".
وأردف الإبراهيميّ قائلا: "أإذا وافقنا طائفة من المسلمين في شيء معلوم
من الدّين بالضّرورة، وفي تغيير المنكرات الفاشية عندنا وعندهم -والمنكر لا
يختلف حُكمه بحكم الأوطان- تنسبوننا إليهم تحقيرا لنا ولهم وازدراء بنا
وبهم، وإن فرّقت بيننا وبينهم الاعتبارات، فنحن مالكيون برغم أنوفكم، وهم
حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نُعمل في طريق
الإصلاح الأقلام، وهم يُعملون فيها الأقدام، وهم يُعملون في الأضرحة
المعاول، ونحن نعمل في بانيها المقاول".
ثمّ يختم الإبراهيميّ قائلا: "إنّنا نجتمع مع الوهابيين في الطريق
الجامعة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وننكر عليهم غلوّهم في الحقّ
كما أنكرنا عليكم غلوّكم في الباطل، فقَعوا أو طيروا، فما ذلك بضائرنا وما
هو بنافعكم" (آثار الإبراهيمي، 01/ 123- 125).
هذا ما قاله الإمام الإبراهيميّ في حقّ "الوهابيين"، وذاك ما قاله في
حقّ مناوئيهم من "القبوريين"، ولا شكّ أنّه لو أدرك أيامنا هذه، ورأى كيف
يتبجّح سدنة المشاريع الطائفيّة البغيضة بنبز المتصدّين للتشيّع الصفويّ
بهذا اللّقب، في محاولة منهم لتنفير النّاس عمّن يفضح مآربهم، ويعرّي شذوذ
مذهبهم عمّا عليه جماهير الأمّة من سلامة القلوب والألسن لأصحاب خاتم
الأنبياء وإمام المرسلين عليه الصّلاة والسّلام، لو أدرك الإمام
الإبراهيميّ أيامنا هذه، ورأى ما نراه، لقال في هؤلاء كلاما أشدّ ممّا قاله
في أولئك، ولعرّى هؤلاء الذين أبوا إلا أن يبيعوا دينهم بعرض من الدّنيا
قليل، كيف لا والإبراهيميّ رحمه الله من يقول: "قبّح الله خبزة أبيع بها
ديني، وأعقّ بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجّة على
قومي وتاريخي، ولكن أين من يعقل أو من يعي" (آثار الإبراهيمي، 03/ 156).
No comments:
Post a Comment