في الوقت الذي يُفتَرض أن يكون فيه قطاع التربية حاملا لمشروع مستقبل
البلاد من حيث تحضير الأجيال الصاعدة ليكونوا أبناء عصرهم، نجده مازال يدير
ظهره للمستقبل ولا يستطيع الخروج من دائرة مشكلات القرون الماضية، مسابقات
التوظيف، مشكلة المستخلفين، التسرب المدرسي، الكراسي والطاولات، ضعف
القراءة والكتابة، تقهقر مستمر في استيعاب كافة المواد، عدم التحكم في أي
من اللغات...
المتتبع لهموم التعليم اليوم يُلاحظ أنها ليست أبدا تلك الهموم التي
تسعى لمواجهة مشكلات المستقبل، باعتبار أن التعليم يَصنع أجيال الغد، بل هي
هموم ومشكلات مزمنة مافتئت تتكرر منذ عقود من الزمن إذا لم نقل أنها
مشكلات بدائية عرفها التعليم منذ نشأته خلال قرون من الزمن ومازالت هي
ذاتها في الجزائر...
مازالت وزارة التربية لم تتجاوز مشكلات مادية مثل الاكتظاظ في
المدارس، وطباعة الكتب، وتوفير الكراسي والطاولات، والتدفئة في الشمال
والتبريد في الجنوب، وساحات اللعب والركض للتلاميذ والأدوات التربوية
المرافقة للتعليم الكلاسيكي مثل المجهر والحوجلة والبيشر والأنابيب
المختلفة...
كما أنها مازالت لم تتجاوز مشكلات الموارد البشرية، كمّا ونوعا،
فهي ذاتها منذ عقود من الزمن، من ضعف في التكوين، وعدم التمكن من توفير ما
يلزم من إطارات لتغطية الحاجات التي يسهل توقعها بالنظر إلى المعطيات
السكانية الواضحة، واللجوء باستمرار إلى الاستخلاف، ثم الدخول مع
المستخلفين في معارك عدم التثبيت ورفض إدماجهم رغم أنهم دفعوا ثمن الخبرة
التي اكتسبوها، ودفعها التلاميذ الذين تخرجوا... فضلا عن بقاء المشكلات
الاجتماعية من سكن ومرافق وأجور... في المراتب الأولى تأثيرا في القطاع
برغم كونها هي الأخرى من المشكلات المزمنة التي عرفها طيلة عقود من الزمن
دون أن تعرف إستراتيجية حل بعيدة المدى تمنع تكرارها في كل مرة.
هذه الحقائق تجعلنا نَحكم أن قطاع التربية في بلادنا يدير ظهره بالفعل للمستقبل، ويعود باستمرار القهقرى نحو الغرق في مشكلات الماضي.
كل ما يبدو اليوم من جهد مبذول إنما هو جهد يصب في حل مشكلات
الماضي وليس المستقبل، مما يعني أنه قطاع لا يتقدم، ويمنع البلاد من أن
تتقدم.
وعندما يُصبح هكذا قطاع بهذه الحال ويفتقد التطلع إلى العقود
القادمة للتكيف مع مستجدات القرن الحادي والعشرين وما بعد، بإمكاننا أن
نحكم عليه بأنه أصبح غير قادر على أن يُقدِّم للأمة والمجتمع ما هو مطلوب
منه، بل نحكم أنه سيستمر عبئا على المجتمع، مستهلكا لقدرات لا تعود عليه
بالآثار المباشرة أو غير المباشرة التي تُمكِّنه من أن يُحقِّق الإقلاع
الاجتماعي والاقتصادي المطلوبين.
إننا لا نستطيع أن نحكم على مستقبل أي بلد حكما صحيحا إلا من خلال
مستقبل قطاع التربية والتعليم به، إذا كان هذا القطاع غير مُتكيف مع
مشكلات المستقبل، غارق في تلك الصعوبات التقليدية التي تعرفها المدارس منذ
قرون، فالبلد هو كذلك، بل سيستمر كذلك في المستقبل
المنظور، أما إذا حدث تحول نوعي في هذا القطاع فإن التحول سيمس
كافة القطاعات الأخرى وسيقدم لنا الخطوط الرئيسية الدالة على المستقبل
المتوقع لأي بلد.
مازالت وزارة التربية لم تتجاوز
مشكلاتٍ مادية مثل الاكتظاظ في المدارس، وطباعة الكتب، وتوفير الكراسي
والطاولات، والتدفئة في الشمال والتبريد في الجنوب، وساحات اللعب والركض
للتلاميذ، والأدوات التربوية المرافقة للتعليم الكلاسيكي مثل المجهر
والحوجلة والبيشر والأنابيب المختلفة...
لذا فإن قراءتنا الأولية اليوم لنوعية القائمين على القطاع،
ولنوعية الأفكار التي يحملونها، ولدرجة إدراكهم لعلاقة المدرسة بالمستقبل
تُبيِّن بكل وضوح، أننا في حاجة لرؤية استشرافية للتربية ببلادنا تضعها
ضمن منظور المستقبل وضمن التطورات الحاصلة على مستوى التفكير في مدرسة للغد
تكون قادرة على التكيف مع المعطيات المعرفية والتكنولوجية للقرن الحادي
والعشرين. أما بقاء بعض مسؤولينا اليوم أسرى ضمن قوالب الصراع التقليدية
حول اللغة أو الأيديولوجية أو الدين كالقول أن العربية هي سبب تخلف
التعليم، والفرنسية هي المنقذ الوحيد، أو أن التربية الإسلامية والتاريخ في
حاجة إلى تحييد، لدليل آخر على تخلف المستوى الفكري للقائمين على القطاع
وعلى جمودهم في مستوى غايات القرن التاسع عشر ذات الأبعاد الاستعمارية. ذلك
أننا لا يمكن اليوم أن نتحدث عن تحديات الراهن، باعتبار المدرسة تُكوِّن
للمستقبل، إنما عن تحديات العقود القادمة؟ أين نحن من التفكير في كل هذا؟
أين نحن من التفكير في التحديات المرتبطة بالتطور التكنولوجي، وبعصر
المعلومات، وبالمدرسة الجديدة في العالم؟ أين نحن من الانتقال من المشكلات
التقليدية ذات الطابع الاجتماعي إلى المشكلات المتعلقة بمواكبة التحول
التكنولوجي في العصر الرقمي، وتضاعف حجم المعارف والابتكارات والمعلومات كل
سنة، والقدرة على تقليص الفجوة التكنولوجية، وتكوين إطارات الغد القادرة
على مواكبة الجديد في المجالات الصناعية والتسيير والشؤون الاقتصادية
المختلفة؟؟
كل العالم اليوم يناقش مسألة تقليص الفجوة بين نوعية التعليم
المُقدَّم في المدارس والتطور التكنولوجي الحاصل في العالم، كل العالم
يسعى اليوم إلى تقديم تكوين في مستويات التحديات العلمية الجديدة حتى لا
يُقدِّم لسوق العمل خريجين أميين تكنولوجيا ولغويا، غير قادرين على قراءة
شفرة العصر، ونحن مازلنا نعقد الاجتماعات لحل مشكلات المستخلفين والطاولات
والكراسي والكتاب المدرسي والأقسام الضيقة أو البعيدة عن التلاميذ في
المداشر والقرى النائية؟ ومازلنا نسعى للرفع من مستوى الأستاذ من خلال
تأهيل شكلي بلا معنى ومن خلال شهادات نقدمها له لكي يبدو أنه قد حقق مستوى
أرفع... خلافا للحقيقة تماما.
ما الذي يحدث في هذا القطاع الحيوي الذي هو أساس كل تطور في المستقبل؟ أية أولوية معطاة له وأية نوعية من المسؤولين هم على رأسه؟
إن طموحنا ليس أن نتحدث اليوم عن التعليم التفاعلي من خلال شبكة
الانترنت كما في أمريكا أو سنغافورة، فتلميذنا مازال عليه أن يفهم الحمض
الريبي النووي المنقوص الأوكسجين من غير مجهر، وأن يتعلم اللغات الحية من
غير مخبر للغات... وطموحنا ليس أن نتحدث عن الأستاذ التكنوفيل
The Technophile Teacher، أو عن البودي سيستم Buddy system الذي بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1994، ولا عن الأقسام المعكوسة flipped classroom،
حيث يتابع التلميذ الدروس في حاسوبه، ثم يذهب للمدرسة ليتلقى التوجيه
المدرسي والتصحيح اللازمين، ولا عن آلاف الابتكارات التعليمية التي تم
تنفيذها في كوريا والصين وسنغافورة، إنما فقط نريد أن ندفع بمدرستنا إلى أن
لا تدير ظهرها للمستقبل وأن لا تبقى أسيرة مشكلات الماضي والماضي السحيق.
إن بقاءها ضمن هذا النوع من المشكلات يعني أن مسؤوليها غير
قادرين على ابتكار الحلول، يعيشون باستمرار ذات الخطأ، وباستمرار يكررون
ذات السياسة غير السليمة لتصحيحه.
إننا لا يمكن أن نزعم الإصلاح في أي مجال من المجالات ولا نزعم
أننا أمة تسعى إلى التقدم، ولا نزعم أننا نستثمر حقيقة في الإنسان وحال
التربية عندنا بهذا الشكل، وحالنا مع التربية هو ذاته منذ عشرات السنين.
لقد تأخرنا كثيرا في إعادة توجيه قطاع التربية والتعليم بجميع أطواره
للتكيف مع المستقبل، وتأخرنا كثيرا في جعله أولوية من الأولويات، وطال
الزمن دون أن نصحح خياراتنا الإستراتيجية، معتقدين أننا يمكن أن ننقذ بلدنا
من خلال قطاع المحروقات تارة والفلاحة أو الصناعة أو الخدمات تارة أخرى،
ناسين أننا دون أن نتمكن من تصحيح وجهة التعليم، ودون أن نمكن المعلم من أن
يكون معلم الغد، لن نتقدم خطوة إلى الأمام.
No comments:
Post a Comment