ليس هناك من رد على ما يحيط بنا من تهديدات أفضل من تعزيز تماسكنا الداخلي
وقوتنا الذاتية. كل السيناريوهات المتعلقة بإعادة ترتيب المنطقة، ومختلف
الأدوات التي يجري استخدامها لتحقيق ذلك، تبقى رهينة ضعف أو قوة الجبهة
الداخلية... لم يعد أمامنا من بديل اليوم سوى تعزيز تماسكنا الداخلي من
خلال الابتعاد عن مناطق الظل التي تَصنعها الكثير من الشعارات، والاقتراب
من نقاط القوة المشتركة التي وَحدنا نَصنُعها بمزيد من التنازل لبعضنا
البعض...
نحن لا نعيش فقط حالة تحول وانتقال
طبيعي من وضع إلى وضع، إنما نعرف تقاطعا كبيرا بين حالة من التحول الطبيعي
والتلقائي الداخلي وتلك التي تريد فرضها قوى أجنبية لها مصالح كبيرة في
إعادة ترتيب المنطقة. بمعنى آخر إننا نعيش تحولات متسارعة على أكثر من
صعيد، تكون طبيعية في حالة ما إذا استمرت وفق منطلقاتها الذاتية، وتتحول عن
مسارها أو تُوجَّه نحو مسار جديد بمجرد أن تُصبح جزءا من إستراتيجية
الآخرين أو تتطابق مع أجندتهم الخاصة.
الكل يعلم اليوم أننا نعيش في منطقة هي في ذات الوقت جزءا من
مجال التنافس العالمي، ومصدرَ قلق لكثير من الدول الكبرى... الأمريكيون
يضعوننا ضمن خارطة الشرق الأوسط الكبير والأوربيون يتصرفون معنا كمستعمرات
قديمة مازالوا في حاجة إلى ثرواتها وأسواقها. ونحن، بينهما لا نكاد نعرف
السبيل الذي يحقق مصالحنا. في كل مرة يتم تنويع أدوات وأشكال الصراع المحيط
بنا، وفي كل مرة يتم ابتكار مبررات جديدة للتدخل في شؤوننا، من نشر
الديمقراطية بكل ما ارتبط بها من شعارات وتغييرات، إلى منع انتشار التطرف
الديني، إلى محاربة الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، وصولا إلى الخوف
مما أطلقوا عليه اسم "داعش"... جميعها كانت ومازالت تعد مبررات للآخر
لمحاولة فرض سياسات من شأنها إعاقة تطورنا الطبيعي، بل ومَنعنا من أن نصل
إلى صياغة مشروع واضح لمستقبلنا بالكيفية التي نريد.
لقد تم إعلان الحرب على ليبيا بحجة الإطاحة بـ"الطاغية" وإقامة
المجتمع الديمقراطي، وتم لهم ما أرادوا، إلا أن الشعب الليبي أو شعوب
المنطقة لم تحقق ما تريد. عكس ذلك، فقد برزت تنظيمات ما انزل الله بها من
سلطان، كل واحد منها باسم الإسلام، أو الوطنية، يدَّعي الحق في استثمار
نتائج الإطاحة بالنظام السابق لصالحه.. ولعل أكثرها إثارة للجدل والتخوف ما
أصبح يُعرف بـ"داعش"، حيث من العدم تحول إلى تنظيم عابر قاري ينتقل بسرعة
من بلاد الشام إلى شمال إفريقيا، ويوجد لنفسه أنصارا عابرين للحدود تطلعوا
بالأمس إلى محاولة السيطرة على جزء من الأرٍض التونسية وسيتطلعون في القريب
العاجل إلى جزء من الأرض الجزائرية إذا لم نقف تجاه ذلك بالمرصاد.
ولعل هذا ما دفعنا إلى طرح مسألة تعزيز الجبهة الداخلية اليوم بالسرعة الكافية وبالوعي اللازمين.
وبدون شك فإن القيام بذلك ليس بالبساطة التي نتصور، إذ أن الكثير
من الأهداف التي تبدو كتطلعات للداخل بامتياز هي ذاتها الأهداف التي
يستخدمها الخارج لتمرير أجندته وأحيانا بذات المفردات ومن غير أي تحوير،
وهو ما ينبغي الانتباه إليه بداية...
لننظر في العبارات - ذات المعنى الذي يبدو إيجابيا - التالية:
"الإصلاح ونشر الديمقراطية"، "تحقيق التنمية والديمقراطية"، "الإصلاحات
السياسية"، "الانتخابات النزيهة"، "دور متزايد للمجتمع المدني في مراقبة
الانتخابات"، "الانتقال الديمقراطي"، " المراقبة الدولية للانتخابات"،
"تحقيق الدولة المدنية"، "المزيد من الحرية للمرأة"، "فتح مجال الحريات في
جميع القطاعات"... الخ.
ولننظر من جهة أخرى للعبارات ذات المعنى السلبي التالية: "
القضاء على الديكتاتورية"، "تغيير الأنظمة"، "التغيير الشامل"، "رفض حكم
الأقلية"، "القضاء على احتكار السلطة"، "إبعاد الدين عن الحياة
السياسية"... الخ. ماذا نلاحظ؟
سنلاحظ بلا عناء أنها هي ذاتها، في الخطاب الذي شرعت القوى
الكبرى في ترويجه منذ بداية الألفية الثالثة، وخطابِ ما عُرف بموجة الربيع
العربي وما بعدها... فهل نَزعم أن كل خطاب الربيع العربي ما كان ليزيد عن
كونه صدى واضح لمضمون الخطاب الغربي الموجه تجاه شعوبنا بدءا من موجة
الإصلاحات التي عرفها العالم في نهاية الثمانينيات وانتهاء بما عُرف بسياسة
الشرق الأوسط الكبير التي نادى بها الأمريكيون؟ أم نعتقد أن هناك خطابا
داخليا مستقلا نابعا من معاناة ذاتية لا علاقة له بالمحيط الدولي؟ أم نُدرك
أن الأمر
يتعلق بعلاقة تداخل بين الداخل والخارج ينبغي الانتباه إلى مخاطرها؟
في كل مرة يتم تنويع أدوات وأشكال
الصراع المحيط بنا، وفي كل مرة يتم ابتكار مبرّرات جديدة للتدخل في شؤوننا؛
من نشر الديمقراطية بكل ما ارتبط بها من شعارات وتغييرات، إلى منع انتشار
التطرّف الديني، إلى محاربة الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، وصولا
إلى الخوف مما أطلقوا عليه اسم "داعش"...
يبدو أن الافتراض الأخير هو الأصح، ذلك أن الواقع اليوم يُبرز لنا
بجلاء كيف أن الخارج بقدر ما يسعى لفرض أجندته يعمل على أن تبدو وكأنها
نابعة من الداخل، وكأننا نحن الذين نريد ذلك على الطريقة السورية أو
العراقية أو اليمنية او المصرية أو التونسية حتى... ويتم بالتدريج التلاعب
بالعقول في الداخل إلى أن يبدو لها وكأنها هي من تدير الصراع، وهي من تَنحت
المصطلحات، وهي مَن تسعى لتعزيز الداخل على الخارج.
ألم تعتقد المعارضة السورية أنها هي من تُحرك الخارج؟ أو لم يتصور
الليبيون أنهم هم من سيُجيِّرون تدخل الناتو لصالحهم؟ أو لم يفعلها
العراقيون قبلهم؟ واليمنيون بعدهم؟
لقد حدث ذلك بالفعل وتبين في آخر المطاف أن القرار الذي اعتقد
الكثير أنه نابع من الداخل، من العمق الشعبي، إنما هو في محصلة المطاف قرار
خارجي بامتياز يخدم مصالح أجنبية عليا وعلى المدى البعيد.
وهو ما ينبغي الانتباه إليه أكثر اليوم، وقد ازدادت التهديدات من
حولنا؟ أن نُفكر بمزيد من الحيطة والحذر في ما يمكن أن يكون غاية خارجية
يتم تنفيذها بأياد داخلية من خلال مناورات بالغة التعقيد يصعب الانتباه
لها، بل ويصعب الحكم على طبيعتها.
هل يمكن لليبيين اليوم أن يُميِّزوا بوضوح بين مطالب "داعش"،
والإسلاميين الليبيين، والمعارضة المسلحة الأخرى، وما يريده الشعب، وما
تريده القوى الدولية كالولايات المتحدة وايطاليا وفرنسا وتركيا وبلدان
الخليج العربية؟
اعتقد أنه من الصعب عليهم ذلك. ولعل هذا ما يجعلنا اليوم ندعو إلى
أهمية التمييز بين المطالب الداخلية مهما كانت موضوعية وحقيقية، وبين أن
تكون هذه المطالب عناوين أجندات خارجية يصعب إدراكها.
إننا نعيش اليوم مرحلة حرجة من تاريخنا المعاصر. ففي الوقت الذي
نريد القيام بإصلاحات هي من صميم معاناتنا وتطلعنا إلى غد أفضل، يعمل آخرون
على جعلها جزءا من سياستهم الكونية التي تخدم مصالحه في آخر المطاف.
وشعوبنا ودولنا لا تملك من الإمكانيات ما يمكنها من أن تكون بحق هي سيدة
موقفها، إذا استثنينا هذه القدرة على التمييز الفعلي بين ما هو داخلي حقيقي
وما هو خارجي، والتي علينا أن نستغلها إلى أبعد الحدود، وإن اقتضى الأمر
علينا بمزيد من التنازلات لبعضنا البعض، ومزيد من الاعتراف ببعضنا البعض،
حتى نعرف بحق الطريق الذي بإمكانه أن يجنبنا الوقوع في ما وقع فيه غيرنا...
لقد حدث ما حدث لهم.. و في آخر المطاف هم لا يعرفون إن كان ذلك بإرادتهم أو بغير إرادتهم.
No comments:
Post a Comment